المشرف العام المشرف العام
عدد المساهمات : 5351 :
| موضوع: التنمية الإدارية: مدخل بديل للإصلاح والتمكين للتنمية السياسية في الجزائر الجمعة 07 مايو 2010, 13:45 | |
| التنمية الإدارية: مدخل بديل للإصلاح والتمكين للتنمية السياسية في الجزائر.
الدكتور/ بومدين طاشمة
كلية الحقوق
جامعة أبوبكر بلقايد، تلمسان
المقدمة:
التنمية الإدارية هي عملية حضارية شاملة ترتكز على قدرات ذاتية راسخة و متطورة تتمثل في قدرة اقتصادية دافعة و متعاظمة و قدرة اجتماعية متفاعلة ومشاركة، و قدرة سياسية واعية وموجهة، و قدرة إدارية كفؤ ومنفذة، وانحسار أي نوع من هذه القدرات يشل التنمية و يعرقلها (1).
وعلى هذا فإن التنمية الإدارية هي عملية تغيير مخطط تستخدم فيه طرق علمية تمكن الجهاز الإداري من تحديث الأنماط التنظيمية والسلوكية و إتباع الهياكـل الإدارية الملائمة و تكييفها في ضوء المتغيرات البيئية و تدعيمها بالمهارات البشرية الضرورية، وفتح مجالات رحبة للتدريب بما ينمي قدرات القوة العاملة و تحديث القوانين والتشريعات المعمول بها، وتطوير وتنمية معلومات ومهارات واتجاهات وسلوك أفراد المنظمة، وتحسين بيئة العمل الإداري، و ذلك من أجل تحقيق أهداف إرتيادية (إستراتيجية) التنمية الشاملة بأقصى درجة من الكفاءة و الفاعلية.
هل يمكن إحداث الإصلاح السياسي و تحديث الدولة و المجتمع من دون الإهتمام بموضوع إصلاح الجهاز الإداري للدولة، أو بعبارة أخرى البحث عن نموذج تنموي سياسي دون الإتمام بالتطور والتنمية الإدارية ؟
لقد أجبرت ظروف التحولات الإجتماعية و السياسية و الإقتصادية الكبرى صانعي السياسات على محاولة الفهم العميق لأبعاد العمليات التنموية في الدول المستضعفة، ومنها الجزائر محل دراستنا ، إلا أن تلك المحاولات كانت قد تركزت حول عمليات التنمية الاقتصادية و الاجتماعية و حتى الثقافية ، ولم تحظ التنمية الإدارية وعلاقاتها بالتنمية السياسية الشاملة إلا بإهتمام ضئيل .
ومن هذا فإن الجزائر بحاجة إلى إستراتيجية بديلة للتنمية الإدارية في مختلف أجهزتها الإدارية حتى تكون مكملة ومتفاعلة مع نسقها الكلي المتمثل في التنمية السياسية الشاملة و المتوازنة , وهذا لا يكون إلا بالإنطلاق من الفهم الصحيح للأبعاد البيئية والدعوة إلى أسلوب العلاج بالضد Allopathic و الإبتعاد عن التغريب و التقليد الأعمى من جهة ثانية .
لذا، لما كانت قضية التنميـة السياسية عملية شاملة ومتكاملة، فإنها لا يمكن أن تكون مستديمة ومتوازنة إلا بوجود تنمية إدارية فعالة ورشيدة ، هذه الفعالية والرشادة تحتاج بدورها إلى إصلاحات إدارية مستمرة و متجددة مواكـبة للتغيرات والتحولات الإجتماعية الكبرى . لذا فأن إصلاح الجهاز الإداري يجب أن يمثل أحد الأهداف الإستراتيجية ضمن إستراتيجية التنمية السياسية الشاملة .
ونظرا لأهمية التنمية الإدارية ، فإنه من الضروري أن تعمل القيادة بإستمرار على تجسيد الإصلاح الإداري الذي يعتبره الأستاذ الدكتور " عمار بوحوش " عملية شاملة تتناول جميع جوانب العملية الإدارية و إجراءاتها والجوانب السلوكية المرتبطة بها ، كالجوانب التنظيمية و الإجرائية، والقانونية ، وتحسين إجراءات التوظيف، وتطبيق قواعد الجدارة والإستحقاق، وتكافؤ الفرص من أجل الإبتعاد عــن المحسوبية بكافة أشكالها ، وتطوير خطة ووصف الوظائف وتحليلها (2).
وحتى تحقق التنمية الإدارية فعاليتها ومسايرتها للأوضاع الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والثقافية في المجتمع، فإن على المهتمين بها أن يسلكوا سياسات جديدة في عملية الإصلاح الإداري آخذين بعين الإعتبارات جانب تحسين وتطوير برامج التدريب، ووضع قواعد عملية و ثابتة لنقل الموظفين، وتطوير سياسة الترقية و إجراءاتها، كما يجب حماية الموظف من بعض الممارســات التي قد يتـعـرض لهـا، كالضغوط السياسية من قبل رجال السياسة، أو كبار موظــفي الدولة ، مما يسبب فـي ظاهرة إنــتهاك الأخــلاق الوظــيفية .
كما يجب على المهتمين بالإصلاح الإداري إعادة النظر في هياكل التنظيمية الإدارية والنصوص القانونية و التنظيمية التي تضبط هياكل الإدارة وتحدد أساليب العمل فيها ، والإهتمام بالعنصر الإنساني بإعتباره العنصر الأساسي في التنمية الإدارية والسياسية الشاملة , مع مراعاة الظروف الإجتماعية والسياسية و الإقتصادية والثقافية التي تتخذ فيها إجراءات الإصلاح الإداري . وهذا حتى يستطيع التنظيم أن يواكب جميع التطورات و التغـيرات المستمرة من ناحية، والتخلص من العيوب التنظيمية و تقريب القمة من القاعدة من ناحية أخرى . كل هذا في إطار مشروع شامل يضم كافة المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية و الثقافية في المجتمع.
فإن كان المختصون بمــسألة التــنمية السياســية يعتــبرون أن الـتنمية الإدارية هي من الجوانب الأساسية و الجوهرية في عملية التنمية السـياسية الشاملة. حتى أن البعــض منهم يعتــبر أن التنمــية السياسية مرتبطة بـمـدى تطور الجـهـاز الإداري (3). فإن التخلص من سلبيات وصــعوبـــات الإدارة و إيجــاد جــهاز إداري فعال هي من أهداف أي عمل تنموي سياسي.
وعليه، يمكن القول أن الإصلاح في الجزائر بشكل عام ، والإصلاحات الإدارية بشكل خاص ، تفتقر إلى الرؤية الواضحة لطبيعة المشكلات التي تمر بها الإدارة في الجزائر ، و عدم قدرة الأجهزة الإدارية على تحقيق أهداف البرامج التنموية نظرا لعدم قيامهـا على أسس علمية وعملية .
كل هذا يرجع أساسا إلى تلك الخصوصيات الراسخة في أجهزة بيروقراطية الإدارة الجزائرية، هذه الخصوصيات و المظاهر السلبية يمكن تحديدها في العناصر التالية :
1 ـ زيادة التضخم التنظيمي و الوظيفي للجهاز الحكومي و تحوله إلى هيكل هش. و قد إقترن هذا التضخم المؤسسي بتداخل و إزدواج في إختصاصات أجهزته و تفاقم مشكلة التنسيق على مختلف المستويات.
2 ـ نمو الأعراض المرضية للبيروقراطية الجزائرية، من إفراط في الرسمية والشكلية، والجمود و مقاومة التغيير،و تحويل الوسائل إلى غايات. و أصبحت الحكومات المتعاقبة في سدة الحكم تعالج مشكلات الإدارة البيروقراطية فيها بإستصدار المزيد من اللوائح والضوابط القانونية التي غالبا لا تنفذ .
3 ـ تحول الجهاز البيروقراطي الحكومي إلى مركز قوة في المجتمع الجزائري يسطر على موارد الأمة دون رقابة خارجية فعالة . نتيجة عدم وجود سلطة تشريعية فعالة، و سلطة قضائية مستقلة. ومكن هذا الإختلال للنخبة البيروقراطية أن تتحصن، و أن تكتسب مناعة ضدّ المساءلة و الحساب و كذا الإصلاح و التنمية الإدارية .
4 ـ إستغلال النفوذ و الصراع من أجل الحصول على مناصب قيادية لتحقيق أهداف ذاتية . وهذا ما يؤدي إلى تقديم المصلحة الشخصية عن المصلحة العامة، وأصبح بعد ذلك همّ القيادة البيروقراطية ليس تفعيل القرارات و السلوك. إنما الأمر على العكس من ذلك هو جمع الثروة بكل الوسائل، فانتشرت المظاهر غير الأخلاقية كالرشوة، والتزوير في أوساط الموظفين، وخذا ما يفسر الصفات غير الحميدة التي يتصف بها الأعوان العموميون في الجزائر (4).
5 ـ إن الإدارة العامة الجزائرية هي إدارة مقلدة أكثر منها أصلية ، إذ تحاول أن تنقل صورة البيروقراطية الغربية، خاصة النموذج الإداري الفرنسي الإستعماري . ويشمل هذا التراث الإداري الإستعماري مظهرا مستمرا في تأثيره على التنظيم الإداري، الأمر الذي يجعله يقتصر على فئة محدودة نخبوية متسلطة معرقلة لكل إصلاح لا يتماشى و مصالحها.
6 ـ أما المشكلة السادسة فهي تتمثل في وجود الإتجاهات غير الإنتاجية في الجهاز الإداري، حيث يوجه النــشاط الإداري لخدمة أهداف أخرى غير الأهداف المرجوة منها. بالإضافة إلى رغبة البيروقراطيين في تفضيل تمرير و تحقيق مصالحهم الفردية على حساب المصلحة العامة .
7 ـ المشكلة السابعة تتمثل في هجرة الكفاءة الإدارية الجزائرية، و إفتقارها من الكوادر الماهرة القادرة على تخطيط و تنفيذ البرامج التنموية. و يرجع هذا المشكل إلى أكثر من سبب من ذلك مايلي:
ـ أن عملية التوظيف تتأثر بالإعتبارات الشخصية رغم مراعاة نظام الكفاءة رسميا . فنظام التوظيف في الإدارة الجزائرية يعتمد شكليا على الكفاءة في الإمتحانات ، ولكنه عمليا يقوم على تجاوز المـؤهلــين ، حيـث يلـجأ عادة إلى الوساطة في التوظيف ، و تقديم أهل الثقة قبل أهل الخبرة في تولية المناصب القيادية، و في الترقية ، و في منح الحوافز .و إن كان هذا مناسبا في المناصب السياسية العليا فإنه يصبح غير مناسب في الوظائف التقنية و الإدارية، و هذا ما جعل الموظف الجزائري في حالة شعور دائم بالخوف من الإقالة و دون سابق إنذار، و مثل هذا الشعور يجعله لا يبدع و لا يطور آماله (5)، مادام الأمر يقوم على الإعتبارات الشخصية التي تلعب دورا كبيرا في الترقية والعزل.
ـ تأثير الوسط الإجتماعي و الإقتصادي ، و إنتشار ظاهرة الثراء بلا سبب ، و المساومة على حساب المصلحة العامة لكسب منافع خاصة ، و هذا واضح في مجال العقود، وإبرام صفقات التوريد، والتجهيز، والإنجاز ... الخ .
إن هجرة الكفاءة الإدارية الجزائرية ، و النقص في الإطارات الماهرة ذات الكفاءة العالية في التسيير و التنظيم ، لا يعني عدم وجود طاقات بشرية بل المشكلة تكمن في كيفية تسيير هذه الموارد البشرية وفقا للإبتكارات العلمية الجديدة و المتجددة ، ولا يمكن معالجة مشكلة القدرة الإدارية إلا بإستقطاب الكفاءات الموجودة عن طريق التوزيع العادل للمناصب الإدارية، وفتح مجال التوظيف على قدر المساواة أمام حاملي الشهادات الجامعية ، مع مراعاة إعادة إصلاح النظام التربوي و تكثيف الجهود التدريبية للموظفين.
8 ـ إنتشــار المظاهر السلبية في المؤسسات الإدارية، نتيجة إنحسار المد القيمي الأخلاقي وتحلل العاملين فيها من الـقيم المهـنية والأخلاق الوظيفية التي توجه سلوكهم وتحكم قراراتهم وترشد تصرفاتهم الرسمية وغير الرسمية.
9 ـ التهرب من المسؤولية، و إنتشار أساليب الإتكال في مختلف مستويات بيروقراطية الإدارة ، و التهرب من الواجبات لإعتقادهم بأنهم يعملون ، و غيرهم يجني الثمار، و هذا ما يؤدي إلى إنعدام روح المبادرة و الإبتكار .
10 ـ الظاهرة الأخرى التي لا تقل خطورة عن سابقتها تتمثل في إسهام العديد من المؤسسات الإدارية في التخفيف من وطأة القيم الإيجابية الأصلية المستمدة من التراث الحضاري للأمة ، و التواطؤ مع الممارسات السلوكية الشاذة والمنحرفة التي تقترفها العناصر الضعيفة التي إستطاعت أن تقفز إلى المواقع القيادية بأساليب ملتوية و غير مشروعة (6). إن شيوع هذه الممارسات ما هو إلا إستمرار لقيم متأصلة و مكتسبة من ثقافة إدارية إستعمارية من جهة، وإلى عدم تجديد الإدارة و تحديثها من جهة ثانية ، إضافة إلى ذلك الفراغ السياسي والإيديولوجي الذي تمر به البلاد حاليا إذ أن غياب العامل السياسي والإيديولوجي الذي يستطيع فرض رقابة شديدة على البيروقراطية ويوجهها ليجعل هـــذه الأخيرة تتحرك في نوع من الفراغ الجزئي.
11ـ غياب الرقابة الفعالة في الإدارة الجزائرية أدى إلى تفشي الظواهر السلبية للبيروقراطية كالفساد الإداري , والرشوة , والمحسوبية ، و الوصولية ، والتحايل على القوانين ، والغيابات غير الشرعية ، وإحتقار العمل كقيمة حضارية .
12 ـ التناقض الكبير بين الوضع الرسمي و الواقع ، ويتجلى هذا في الظهور بما يجب أن تكون عليه الأمور خلافا لما هو عليه الواقع . والغريب أن يتم إخفاء هذه الفجوة بين التوقعات و الحقائق عن طريق إصدار القوانين التي لا يتم تطبيقها، والعمل بتنظيمات تتعلق بشؤون التوظيف، ولكن يتم تجاوزها، والإعلان عن تفويض صلاحيات إدارية مع إبقاء رقابـة المركز محكمة، و حصر حق إتخاذ القرارات فيه، وإصدار التقارير بأن النتائج قد حققت الأهداف المرجوة بينما الحقيقة أن النتائج لم تتحقق إلا جزئيا.
13 ـ عدم إستقرار الحكومـة، بسبب الظروف التي مرت بها الجزائر منذ سنة 1988 و إلى اليوم 2007، و المدة تقترب من تسعة عشر (19) سنة كاملة نلاحظ عدد الحكومات المتعاقبة بلغ (11) حكومة، و كل حكومة بفريق عمل جديد سواء قيادة جديدة أو مناصب جديدة، و تشير الأرقام في الفترة من 1988 إلى 2002 إلى تعيين (10) رؤساء حكومة، (190) وزير، متوسط العمل في الوزارة (13) شهرا و (57) يوما، أي أقل من شهرين (7). و قد شهدت تلك الفترة ظاهرة دمج وزارات و تجزئة أخرى، و ما يترتب عن ذلك من تبعات مادية و بشرية، وإعادة تنظيم قد تستغرق وقتا طويلا. و عليه فظاهرة عدم الإستقرار أثرت سلبا على فعالية و رشادة الإدارية العامة، و الفروع التابعة لها من إزدواجية في المهام، و تضارب الصلاحيات، هذا زيادة عن ضعف الرقابة، و تأخير حل المشكلات، و خلق آثارا لدى المنفذين على مستوى الولايات والبلديات.
إذا ، بعد إبراز أهم الخصوصيات و المشكلات التي تبصم بيروقراطية الإدارة الجزائرية ، والتي تقف حجرة عثرة أمام أي إصلاح أو أي عمل تنموي سياسي وإداري، سنحاول تحديد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور تلك الخصوصيات السلبية . فما هي أسباب هذه المشكلات الإدارية ؟ وما هي الوسائل الكفيلة لمعالجتها والحد منها ؟
لقد تظافرت جملة من العوامل و الظروف الداخلية المتنوعة ، بعضها تاريخي ، والبعض الآخر ذو طابع قانوني و سياسي وإقتصادي لتخلق ضغوطا و مطالب وتأثيرات كان لها أثر كبير في دفع النظام السياسي الجزائري إلى ضرورة التحرك في الإتجاه الذي يضمن على الأقل إستمراريته من جهة , والحد أو التقليل من خسائره من جهة أخرى , على إعتبار أن التنازل أو التخلي عن السلطة بإمتيازاتها أمر غير وارد . وتتخلص هذه الأسباب التي تعد في نفس الوقت ضغوطات على النظام السياسي في نفس الوقت، فيما يلي :
1 ـ الأسباب التاريخية :
تتمثل الأسباب التاريخية لبيروقراطية الإدارة الجزائرية أساسا في ذلك الإرث التاريخي الذي ورثته عن العهد التركي، والحقبة الفرنسية ، ثم مرحلة ما بعد الإستقلال. هذه الحقب التاريخية كان لها أثر كبير في تفشي المظاهر السلبية على الإدارة الجزائرية، الأمر الذي أدى إلى ظهور جهاز بيروقراطي مركزي منغلق.
وعلى الرغم من التعديلات والإجراءات التي قامت بها الدولة الجزائرية من أجل القضاء على تلك المظاهر السلبية الموروثة، و إن كانت قد تمكنت في التغلب و القضاء على المظاهر السلبية المادية فإنه من الصعب التحكم و التغلب على القضايا و المظاهر السلوكية والفكرية التي غرسها الإستعمار الفرنسي، و أعد لها قادة مخلصين يدافعون عنها، و ينقلون مظاهرها للأجيال المتعاقبة. و قد تعمق ذلك بغياب الثقافة الإدارية الأصيلة و البناءة، ومحاولة تغيير المجتمع بقوانين و تعليمات فوقية ، و قد أورد في هذا الإتجاه الأستاذ الدكتور " منصور بن لرنب " قوله : " لا يمكن لأي باحث حصيف إنكار التأثير المباشر أو غير المباشر للإدارة العثمانية أو الفرنسية على الإدارة الجزائرية، على الأقل في المراحل الأولى من الإستقلال السياسي التي كان لها تأثير كبير في رسم الإستراتيجيات التنموية الإدارية ، و هنا تبرز العلاقة بين حاضر الإدارة الجزائرية، وماضيها المحدد في المرحلتين السابقتين " (8) .
إنطلاقا من هذه المقولة يمكن القول أن بيروقراطية الإدارة الجزائرية لازالت تعاني من المظاهر السلبية كالرشوة، والمحسوبية، وغياب قيم العمل الحضاريـة، و لا زال المواطن يشعر بالإغتراب والإنفصال عن الجهاز الإداري، مما جعل هذا الأخير لا يقوى على تجنيد و تعبئة الطاقات البشرية . لذا حتى يمكن بناء عامل الثقة بين الإدارة و المواطن فلا بدّ من إتخاذ قرارات عقلانية، غايتها إزالة مظاهر التسيب البيروقراطي، والتخلي عن الخطاب السياسي المزدوج، والإهتمام بالإنسان الذي يعد ثروة الأمم.
2 ـ الأسباب القانونية :
ترجع المظاهر السلبية لبيروقراطية الإدارة الجزائرية إلى عدم صلاحية الكثير من القوانين واللوائح السارية المفعول، إذ أن معظم القوانين لا تتماشى والتغييرات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية. ففي الوقت الذي يمر فيه المجتمع بتغيرات وتحولات عميقة على كافة المستويات ، نجد القوانين لا تساير هذه التغيرات ، الأمر الذي يجعلها معرقلة لكل تغير ، مما إنعكس سلبا على دور الإدارة العلمية الحديثة .
ولتبسيط توقعات وإنجازات وظائف بيروقراطية الإدارة الجزائرية ، إرتأيت وضع جدولا وفقا للنموذج الدراسي السلوكي معتمدا في ذلك على التقييم السلوكي للنظام الإداري والقانوني ، وهو حساب الفارق بين ما تثيره هذه الإلتزامات من توقعات وما يحققه النظام بالفعل من إنجازات(9).
وعليه، فإن التمسك بتلك الأنظمة و الأدوات القانونية و الإنجازات لها تأثير سلبي، خاصة فيما يتعلق بتحقيق المشاريع الإقتصادية و الإنمائية والتربوية. لذا يستلزم الأمر إعادة النظر في المنظومة القانونية حتى تتماشى والتحولات الإجتماعية الكبرى، وحتى تواكب تطلعات الشعب و آماله هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لابد من تغيير القيم الإدارية السائدة بإصلاحات سياسية وإدارية تمكن من تغيير النظام الإداري تغييرا أساسيا وعقلانيا . فلا تنمية سياسة بدون قيم إدارية إنمائية أهمها وضع الإنسان المناسب في المكان والوقت المناسب.
3 ـ الأسباب السياسية:
إن سيطرة الدولة على المجتمع والطابع البيروقراطي لعلاقتها معه، وعدم قدرة الجهاز البيروقراطي المنغلق على ترجمة مطالب الفئات الإجتماعية إلى مخرجات، أوصل المجتمع إلى حالة من الإنسداد. كما أثبت الواقع أن التحولات الإجتماعية الداخلية التي تنامت بسرعة بفعل إنتشار التعليم والتفتح على العالم المتقدم ، وتزايد متطلبات المعيشة وتعقدها . لم تلقى رد الفعل المناسب من الجهاز البيروقراطي، و لم تجد فيه متنفسا حقيقيا قادرا على إستيعابها وتلبيتها، بل أصبح النظام الإداري عاجزا عن تحقيق الأهداف التي وعد بها خاصة مبدأ تقريب الإدارة من المواطن.
هذا بالإضافة إلى هيمنة النمط القيادي الأوتوقراطي (10)Autocratic Leadership » « القائم على مبدئ السيطرة من أعلى قمة الهرم إلى أسفل قاعدته ، و المعتمدة على حرفية القوانين و لو كان على حساب أهداف التنظيم . بالإضافة إلى ذلك ـ كما ذهبت إحدى الدراسات الجادة لسلوك القيادة في إتخاذ القرار ـ أن سلوك القيادة في الجزائر تتصف بإنعدام الثقة في الآخرين ، و تسييس المناصب القيادية على حساب الكفاءة ، و خضوعها للإيديولوجية ( الفكروية ) الحزبية و مثل هذه المواصفات تبعد القيادة في الجزائر عن كونها قيادة ديمقراطية بل هي قيادة متأرجحة بين الأوتوقراطية و المتسيبة ، و في الحالتين فإن مردودية القيادة البيروقراطية لا زالت بعيدة عن تحقيق رغبات المواطن نتيجة عجزها المتواصل على قدرة الإنجاز، وعدم قدرتها الإستجابة للمطالب والضغوطات نتيجة التغيرات والتحولات على مختلف الصعد السياسية ، و الإجتماعية ، و الإقتصادية ، والثقافية . والنتيجة الحتمية لذلك إفتقادها لشرعياتها وبالتالي إنعدام الثقة فيها من طرف أغلب فئات المجتمع .
4 ـ الأسباب الإقـتصادية :
لقد مر على إستقلال الجزائر أربعة و أربعون (44) سنة و بوادر الفعالية والرشادة في سلوك القيادة البيروقراطية و التيكنوقراطية على مستوى إدارة الإقتصاد لم تظهر بعد. وهذا يتجل في إنعدام الشفافية و سوء تسيير الشؤون الإقتصادية ، مع تناقض القوانين وعدم تطبيقها في حالات أخرى ، وإنعدام الكفاءات العلمية و العملية . و من جهة أخرى طبيعة نظام الحكم المركزية، وتبعية العدالة للجهاز السياسي ، و إستفحال ظاهرة الجهوية والمحسوبية . كل هذه المظاهر و غيرها ساهمت في الإخلال بالإقتصاد الوطني، و في الإنحطاط الذي ألم بالمجتمع ، و في الضعف الذي طرأ على دور الدولة . وفي الوقت نفسه نجدها تفسر الهوة الشاسعة بين الحاكم والمحكوم، و هي ثمرة غياب الثقة بين الشعب والبيروقراطية المسيرة لأجهزة الدولة.
لقد خلقت بيروقراطية الدولة في الجزائر ــ كما أوضحت ذلك في الفصول السابقة ــ تناقضات و ظروف معقدة ، أصبحت بيروقراطية الإدارة عاجزة عن التحكم فيها نتيجة إعتمادها على قاعدة الريع البترولي الذي سيطرت عليه ، و اتباع سياسات تنموية دخيلة كإستراتيجية الصناعة المصنعة التي نادى بها عالم الإقتصاد الفرنسي " جرار دستان دبرنيس " "Jerar Destin Debernis" و التي إتبعتها الجزائر خلال فترة السبعينيات والتي أدت إلى إهمال الفلاحة و نشوء فئة التقنوقراطية في القطاع الصناعي . كما أن السياسات المتبعة خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات المتعلقة بالتوظيف و المرتبات في المؤسسات الإقتصادية العامة لم تعكس أي ضرورة إقتصادية .
بالإضافة إلى ذلك أن المؤسسات الوطنية كان يغلب عليها الطابع الإجتماعي والسياسي، فالجزائرعرفت إدارة إقتصادية مسيسة وليس إدارة إقتصادية قائمة على الجدوى والنجاعة، لذلك كانت المشاريع الإقتصادية في الواقع خاضعة لتقلبات القرارات والأحكام السياسية والإدارية التي لا تعرف الإستقرار .
يضاف إلى السلبيات السابقة الإعتماد على الطرق النخبوية للتسيير البعيدة عن القواعد المتبعة دوليا، و منطق الإستعمال المفرط للتكنولوجيا المتطورة، واللجوء الزائد عن الحدّ إلى المؤسسات الأجنبية، و تمركز سلطة القرار في دوائر محددة، كل هذه العوامل ساعدت على تعزيز المزايا غير القانونية غالبا لصالح مجموعة محدودة من المسؤولين في القطاع الإقتصادي.
من جانب آخر عدم الإستمرارية بالنسبة للإداريين ومسيري المؤسســات مما جعلهم لا يتحكمون في التسيير، ونفس الشيء بالنسبة للقوانين والقرارات والمشاريع حيث يطغى عليها التسرع، سواء من حيث الإقدام عليهـا أو في تغييرها. ولعل أحسـن مثال على ذلك محاولات تنظيم إدارة القطاع الإقتصادي والفلاحي عدة مرات تحت تسميات وشعارات مختلفة، ومع ذلك النتائج تكاد تكون واحدة وسلبية في كل مرة .
ناهيك عن إنعدام المقاييس العلمية و الموضوعية في إختيار و تعيين وإقالة المسؤولين والإداريين والمسيرين في القطاع الإقتصادي ، ذلك أن هذه العملية "... تخضع إلى حسابات ومسائل لا علاقة لها بالقدرة و الكفاءة و النزاهة ، و إنما تبنى على إعتبارات المحاباة، و القرابة، والولاء، و الجهوية ..." (11) . يضاف إلى ذلك غياب القدرة في التضحية وبذل الجهد من أجل الصالح العــام الوطني ، و هو ما أفرز تفشي أزمة الضميـر المهني، و ظاهرة اللامبالات "...هذا ما جعل المناصب والمسؤوليات تتحول للمصـلحة الشخصيـة خاصة الثراء غير المشروع على حساب أداء المهمة... كما أفرز سيادة البيروقراطية السلبية التي شوهــت صورة كل ما هو حكومي في نظر المواطن " (12).
إن كل هذه الأسباب وغيرها مجتمعة كانت أو منفردة ، ورغم النوايا والمحاولات المتعددة لرفع مستوى الكفاءة والأداء الإداري ، قد أدت إلى تفشي الظواهر المرضية في الإدارة الجزائرية حيث زادت في إتساع الهوة بين القمة والقاعدة ، وإستفحل الإهمال وتراكمت مشاكل الفئات المحرومة والمرتبطة تماما بكل ما تقدمه أجهزة الدولة من خدمات وما توفره لها من فرص الإستفادة من الثــروة الوطنية .
لذا ، يتطلب إصلاح بيروقراطية الإدارة الجزائرية الراهنة ، من خلال البحث عن الوسائل الناجعة الكفيلة لمعالجتها من جهة ، ووضع إستراتيجية إدارية بديلة هدفها بناء إدارة للتنمية السياسية الشاملة والمستديمة والمتوازنة من جهة ثانية ، بإعتبار أن المشكلة الرئيسية التي تواجه تجاوز عملية التخلف كما يقول الأستاذ الدكتور " رمزي زكي ": " هي في إكتشاف النمط الذي تكمن فيه مواطن القوة لقيادة عملية التنمية ، بالإضافة إلى ضرورة الإستفادة منها ، في ظل إستراتيجية واعية تراعي تواجد هذه الأنماط و تستفيد من إمكانات كل منها في العطاء لعملية التنمية " (13) ، وهذا لا يكون إلا من خلال تنمية القدرة التخطيطية وحسن إستغلال كل الموارد المتاحة و ترشيد إستخدامها بشكل إستراتيجي، وهذا لا يكون إلا بالتخطيط الإستراتيجي الذي يعني " الخطط الأساسية للمنظمة، و التي تتم من قبــل الإدارة العليا ، وهي لا تتعلق بوسائل تحقيق الأهداف ، ولكنها تتعلق بتحديد الأهداف نفسها " (14) . خلال الحقبات السابقــة ( إبتداءا من الستينات إلى السبعينات ) كانت التجربة الجزائرية في التنميــة والتخطيط بعيدة كل البعد عن هذا الطرح الإستراتيجي من جهة ، إلى جانب غيـاب البعد الديمقراطي في تعزيز التخطيط ورسم الخطط الإستراتيجية من جهة ثانية. كذلك ضرورة الإهتمام بالعنصر الإنساني، و ذلك عن طريق تشجيع الأسلوب الشورى والديمقراطي في الأجهزة الإدارية، وتطوير النظام الوظيفي على ضوء التغيرات الإجتماعية والإقتصادية، و إتاحة الفرصة للعاملين للمساهمة في إدارة شؤون الإدارة، وتقديم مقترحاتهم بكل حرية وجرأة مما يشجع على تحسين أساليب العمل الإداري.
هذا إلى جانب دعم و تبني القيادة السياسية العليا للإصلاح الإداري في الدولة له، من خلال تبنيها للأهداف و المحاور الرئيسية لخطة الإصلاح و متابعتها و تقييمها للإنجازات المتحققة بشأنها (15). بالإضافة إلى ضرورة العمل على تغيير الحالة الذهنية للموظفين الذين يتصفون باللامبالاة والعزوف والحياد السلبي ، وذلك بتوسيع مشاركتهم في إتخاذ القرارات، وإطلاعهم على كل ما يجري من تعديلات وتغييرات تنظيمية ، مما يسمح أن تكون لهم الفاعلية في المشاركة في عملية التنمية السياسية و الإدارية الشاملة والمستديمة. والتحكم في عملية قنوات الإتصال بين القيادة والقاعدة من أجل خلق الثقة والتعاون المتبادل بينهما . والإلتزام بمبدأ وضع الإنسان المناسب في المكان والوقت المناسب، وإحترام شروط التعيين في الوظيفة ، وإتباع سياسة واضحة في الترقية ، و توفير الشروط المادية والمالية للقيام بالعمل الإداري الفعال .
كما يجب العمل على التخفيف من المركزية الإدارية ، ويتم ذلك بتوسيع نطاق التفويض في الإختصاص، مع تقرير مبدأ القيادة الجماعية لمنع فرض سلطة الرؤساء الإداريين ،وتشجيع المجالس الشعبية المنتخبة على الإسهام بدورها في محاربة البيروقراطية الهجينة. وإعادة النظر في التنظيم الهيكلي للإدارة وطرق تسييرها ، خاصة وأن المجتمع الجزائري يعرف تحولات جوهرية . وبالتالي، فإن عملية إحداث إصلاح في الهيكل التنظيمي للجهاز الإداري ، عملية تفرضها طبيعة المرحلة التي تعيشها البلاد ، لذلك يتوجب تطوير الهيكل التنظيمي للإدارة حتى يواكب الأهداف والأدوار الجديدة .
هذا بالإضافة إلى ضرورة الإهتمام بالعنصر القيادي الكفء، وهذا بهدف تحقيق هدفين أساسيين: تقديم وتحسين الخدمة العامة للجمهور المتعامل معها ، وتجنب التضخم البيروقراطي والبطالة المقنعة . وهـذا بدوره يتطلـب تجديد الهياكل الإدارية وتطعيمها بعناصر إدارية جديدة تواكب التطورات الحاصلة في المجتمع . من هذا يتبين لنا أن أهمية إتخاذ إجراءات إعادة تنظيم الإطارات بإستمرار، تعتبر عملية فعالة وضرورية لرفع الأداء الإداري وتــطويره.
و في الأخير لإحداث تنمية إدارية تتجاوب مع أهداف التنمية السياسية الشاملة، ضرورة إيجاد هيئة عـلـيا للإصلاح الإداري، تقوم برسم وتنفيذ إستراتيجيات الإصلاح الإداري، وتمتلك القدرة اللازمة من أجل إتخاذ القرار الملائم لتحقيق الأهداف المسطرة ضمن إستراتيجية للإصلاح. كما يجب أن تتمــتع هذه الهيئة بالتمثيل الكافي والمعبر عن مشاركة جميع قطاعات الإدارة والإطارات العلمية والوطنية، وتتطلب هذه الهيئة تنمية قدراتها الفنية وتوفير الوسائل الضرورية لجمع وتحليل المعلومات لإتـخاذ سياسات الإصلاح الإداري وتنفيذها. ولهذا تعتبر عملية إنشاء هيئة عليا للإصلاح الإداري ضرورة ملحة، نظرا للأمراض المكتبية و المشكلات الإدارية التي تتخبط فيها إدارتنا، إذ تعمل هذه الهيئة على التخفيف من حدتها، وتوفير الظـروف الملائمة والوسائل الضرورية لبناء إدارة فعالة وقادرة على تحقيق أهداف وطموحات الدولة والمجتمع.
وعليه، فإن لا مجال للحديث عن تنمية سياسية شاملة ومتوازنة ومستديمة دون أن تليها عملية الإصلاح الإداري الشامل. وبعبارة أدق إن نجاح عملية الإصلاح والتحديث السياسي تتوقف على مدى تحقيق التنمية الإدارية القائمة على خطة إستراتيجية تنموية محددة الأهداف، و دقيقة التصور مدعمة بمبدأ الإدارة الشعبية للقضاء على الإغتراب السياسي والإداري، والتقليص من السيطرة النخبوي (البيروقراطيين والتقـنوقراطيين )، هذه الفئة التي تعرف بعرقلتها لكـل مجهود تنموي سياسي شامل قد يهـدد أو يقلص من مراكزها ومصالحــها السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية.
وبناءا على ذلك، حين تتحقق هذه الخطـوات الإصلاحية، وتستوعب هذه المنطلقات، فإن تأثيرها يمكن أن يتابع من خلال التطور الذي يتوقع حدوثه في سلوك المنظمات والهيئات الإدارية، وتصرفات العاملين فيهـا.
إنطلاقا من ذلك نورد فيما يلي بعض المؤشرات التي يمكن إخضاعها لتقويم هذه النتائج والتي لخصها الأستاذ الدكتور" عامر الكبيسي" في النقاط التالية:
1ـ مدى التغيير الكمي و النوعي في الأهداف المحددة للمؤسسات و المنظمات وفي سلم الأولويات التي تعطي لها، ودرجة وضوحها والإيـمان بها والإستعداد لتحقيقها.
2ـ مدى التغيير في الوسائل و الأساليب التي تعتمدها المؤسـسات ومقارنة ما أحدثته القيم الجديدة في مستويات الكفاءة و الفعالية .
3ـ مدى التغيير والتطور في النظم والسياسات و اللوائح، وخاصة تلك الـموضحة لتوزيع الصلاحيات ولطرق الإتصال ، والمحددة لحقوق العاملين وواجباتهم .
4ـ مـدى التطور الحاصل في العلاقات التي تربط الأفراد داخل المؤسسات بعضهم ببعض وتلك التي تربطهم مع المتعاملين معهم خارج المؤسسة .
5ـ مدى الزيادة الكمية و التحسن النوعي الناجم في مستوى الإنتاج المتحقق أو الخدمات المقدمة بأقصر وقت وأبسط جهد وأقل تكلفة.
6ـ وأخيرا فإن أهمية النظام القيمي الذي تطمح المؤسسات الإدارية لتبنيه، سيكفل توفير المناخ الوظيفي اللائق، ويوفر للعاملين الأجور القائمة على الإيثار والأمانة والتجرد والموضوعية (16).
وصفوة القول ، فإن عملية بناء جهاز بيروقراطي فعال ورشيد ليساهم في العملية التنموية السياسية الشاملة و المتوازنة ، تتطلب مراعاة العوامل البيئية التي تتحكم في أداء و تنظـيم الإدارة العامة، من بينها العوامل السياسية والإجتماعية والثقافية .
لذا، يجب إتخاذ إجراءات حاسمة و جريئة لوضع إستراتيجية بديلة للتنمية الإدارية ، وهذا لن يتم ــ حسب تصوري ــ إلا بتأصيل الإدارة و الإنطلاق من فهم الأبعاد الحضارية و البيئية للمجتمع الجزائري . هـذا إذا علمنا أن الإدارة في الدول المستضعفة هي إدارة مقلدة في نظامـها وقوانينها للغرب ، ويشمل التراث الإداري الفرنسي مظهرا مستمرا في تأثيره على النظام الإداري الجزائري ، الذي لم يتخلص بعد من ظاهرة التبعية الثقافية والقانونية والإدارية . ولم يتجنب بعد أسلوب "العلاج بالمثل " Homéo PATHIC الذي يجعله مجرد جهاز إداري تابع ومستغــل ومتغرب عن المجتمع. خصوصا وأننا نعلم " أن الغرب اليوم و أكثر من أي وقت، يريد لنا غير ما نريده لأنفسنا، نحن نريد الحداثة، وهو يريد لنا التحديث، نحن نريد السيادة على أرضنا، وهو يجبرنا على قبول التبعية ، نحن نصبو إلى التحرر والوحدة ، وهو يفرض علينا الدكتاتورية بإسم الديمقراطية وحقوق الإنسان " (17).
من هذا فإن أول عمل يجب القيام به هو توفير المناخ العام الملائم لتطبيق الإصلاحات، الأمر الذي يسـتلزم إعادة النظر في بناء و أداء الجهاز الإداري حتى يواكب التحولات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقـافية العميقة، ذلك أن أي محاولة لإصلاح الجهاز الإداري تتم بمعزل عن هذه التحولات و التأثيرات البيئية محكوم عليها بالفشـل. لذا يجب على مخططي التنمية الإدارية الإستفادة من الأخطاء السابقة، ودراسة الواقع الإجتماعي، ومراعاة العوامل الـبيئية المحيطة بالإدارة.
إذا، فالبيئة الإدارية هي جزء لا يتجزأ من البيئة السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية، وأي خلل فيها سيؤدي حتما ـ بحكم التجارب ـ إلى الفشل والإخفاق في العملية التنموية السياسية الشاملة، مما يستلزم على صانعي القرارات الإرتيادية (الإستراتيجية) أن ينظروا إلى العامل البيئي بعين الإعتبار، لا على المسـتوى الداخلي الوطني فقط ، بل وعلى المستوى الخارجي الدولي ، خاصة ونحن في عصر التكتلات الدولية و الصراعات الحضارية والسيطرة على المؤسسات والمنظمات المالية والإدارية والثقافية الدولية .
هوامش الدراسة:
(1) ـ للمزيد من المعلومات عن مفهوم التنمية الإدارية، راجع على سبيل المثال:
ـ رعد حسن الصرن، صناعة التنمية الإدارية في القرن الحادي و العشرين، دمشق: دار الرضا للنشر، 2002، ص 68.
ـ منصور بن لرنب ، " إدارة الموارد البشرية " ، مجموعة محاضرات لطلبة قسم الماجستير ، قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية ، جامعة الجزائر ، 2000 ـ 2001 ، ص 4 .
(2) عمار بوحوش، الإتجاهات الحديثة في علم الإدارة،الجزائر:المؤسسة الوطنية للكتاب، 1984، ص 299.
(3) ـ السيد عبد المطلب غانم، " الإستبداد البيروقراطي و التطور الديمقراطي "، السياسة الدوليـــة، الأهرام: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، القاهرة، العدد 93، جويلية 1988، ص 69.
(4) ـ أنظر:
ـ سعيد مقدم، " أخلاقيات الوظيفة العمومية "، مجلة الإدارة، الجزائر، المجلد السابع، العدد الأول، 1991، ص 13.
(5) ـ سعيد مقدم، " واقع ومقتضيات تنمية الإدارة العمومية في الجزائر"، مجلة الإدارة، الجزائر، المجلد الثالث ، العدد الثاني ، 1993 ، ص 6 – 7 .
(6) ـ عامر الكبيسي، الفساد و العولمة، الرياض: المكتب الجامعي الحديث، 2005، ص 8 ـ 46.
(7) ـ رشيد بن يوب ، دليل الجزائر السياسي ، الجزائر : المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ، الطبعة الأولى ، 1999 ، ص 32 .
(8) ـ منصور بن لرنب ، " إستراتيجية التنمية الإدارية في الجزائر "، أطروحة دكتوراه دولة ، معهد العلوم السياسية و العلاقات الدولية ، جامعة الجزائر ، 1988 ، ص 3 .
(9) ـ للمزيد من المعـلومات عــن توقعات و إنجـازات الـنظام وفق الدراسة السلوكية للنظام السياسي و الإ داري، أنظر:
ـ محمد المجذوب، وآخرون، النظام السياسي الأفضل للإنماء في العالم الثالث: لبنان والدول العربية، بيروت: مكتبة الفكر الجامعي، 1971، ص 249 ـ 250.
(10) ـ يتمتع هذا النوع من القيادة بإنفراد الرئيس أو القائد بالرأي، وإتخاذ القرار الإنفرادي، و إتباع أسلوب الأمر والزجر، و عدم السماح بالمشاركة و الإستشارة، ولا يفوض السلطة والمسؤولية، كما أنه لا يشجع على المبادرة، والإبتكار، و يعطل الطاقات البشرية غير المحدودة. فهذا النمط القيادي تتفوق سلبياته على إيجابياته. لمزيد من المعلومات عن أنماط القيادة أنظر على سبيل المثال:
ـ وارين بينيس ، " وداعا للقيادة القديمة " ، في كتاب : جمال سند السويدي ، و آخرون ، القيادة والإدارة في عصر المعلومات ، أبو ظبي : مركز الإمارات للدراسات و البحوث الإستراتيجية ، الطبعة الأولى ، 2001 ، ص 52 .
(11) – Morad Benachenhou,Dette exterieure, Corruption et Responsabilité politique , Alger : Imprimerie Dahleb , 1988 , p. 75.
(12) ـ عمر صدوق، آراء سياسية و قانونية في بعض قضايا الأزمة ، الجزائر : ديوان المطبوعات الجامعية ، 1995 ، ص 92 .
(13) ـ رمزي زكي، فكر الأزمة: دراسة في أزمة علم الإقتصاد الرأسمالي و الفكر التنموي الغربي، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1987، ص 100.
(14) ـ مدنـي عـبد القادر علاقي ، الإدارة : دراسة تحليلية للوظائف و القرارات الإدارية ، ط 1 ، جدة : نهامة ،1981 ، ص 709 .
(15) ـ يعتبر مثل هذا الدور للقيادة السياسية العليا لا غنى عنه لتحقيق إصلاح إداري يمس الهياكل العليا للجهاز الإداري للدولة ( إعادة تشكيل الوزارات: عددها و إختصاصاتها، و إعادة تشكيل الهيئات المركزية الأخرى )، أو يمس القضايا الهامة الشديدة الحساسية ذات الأبعاد السياسية الإجتماعية كالفساد الإداري، أو تقليص حجم الجهاز الإداري.
أنظر :
ـ أحمد صقر عاشور، إصلاح الإدارة الحكومية:آفاق إستراتيجية للإصلاح الإدارة والتنمية الإدارية العربية في مواجهة التحديات العالمية، القاهرة: المنظمة العربية للتنمية الإدارية، 1995، ص 113 ـ 115 .
(16) ـ عامر الكبيسي ، المرجع السابق الذكر ، ص 19 ـ 20 .
(17) ـ هشام شرابي، " المثقفون العرب و الغرب في نهاية القرن العشرين "، المستقبل العربي، السنة 16، العدد 175، سبتمبر 1993، ص 30.
| |
|
لعلاوي عيسى مشرف قسم الكمبيوتر والانترنت
عدد المساهمات : 2060 :
| موضوع: رد: التنمية الإدارية: مدخل بديل للإصلاح والتمكين للتنمية السياسية في الجزائر السبت 08 مايو 2010, 08:47 | |
| | |
|