.
بينظير بوتو شخصية ولدت تحمل جينات الزعامة وملامح الجاذبية ، وضعها القدر وسط نيران تصهر الحديد فلم تنصهر ، ورمتها أمواج الحياة على صخرة الصراع والسلطة فلم تنكسر ، ودفعها الثأر إلى الوقوف في صفوف البسطاء من أجل حياة عادلة فلم تتأخر أو تتردد . هكذا تقدم لنا نوال مصطفى كتابها " بنظير بوتو ـ ابنة القدر " الصادر عن مكتبة الأسرة عام 2008 ، وهو عبارة عن حديث طويل أجرته الكاتبة الصحفية نوال مصطفى مع المرأة العظيمة بينظير بوتو رئيسة وزراء باكستان التي عاشت حياة عصيبة متأرجحة ، صعوداً وهبوطاً ، انتصاراً وانكساراً ، حيث قضت العشرين عاماً الأولى من حياتها مرفهة ، حياة الطبقة الأرستقراطية الراقية في باكستان ، وعاصرت الانقلاب الذي قاده ضياء الحق ضد أبيها الزعيم ذو الفقار علي بوتو ، والذي انتهى بإعدامه واعتقالها وأمها نصرت بوتو ، وبعد أن اقتص القدر من قاتل أبيها الذي اغتيل بأيد خفية ومات في حادث طائرة ، ابتسم لها القدر ، ففاز حزبها في الانتخابات التشريعية ، وأصبحت رئيسة وزراء باكستان في عام 1988 ، كأول رئيسة وزراء لدولة إسلامية وأصغر رئيسة وزراء .
بعد عامين أقيلت بينظير من منصبها وليفوز نواز شريف بمنصب رئيس الوزراء ثم تستطيع هي في عام 1993 أن تعود إلى منصبها بإرادتها الحديدية ، وتظل في هذا المنصب حتى عام 1997 ، إلى أن تم تجميد حسابات عائلتها والحكم عليها بتهمة الفساد واستغلال النفوذ ، فيسجن زوجها وتهرب إلى خارج البلاد ، ثم تعود إلى أرض الوطن في عام 2007 ، وهي طامحة في تولي منصب رئيسة الوزراء للمرة الثالثة ، متطلعة إلى تحقيق الديموقراطية والرخاء للشعب الباكستاني ، ولكن يتحول الحلم إلى كابوس انتهى بهجوم دموي على موكبها في ديسمبر 2007 أدى إلى اغتيالها قبيل دخول المعركة الانتخابية .
وتظل بوتو جسراً بين الشرق بأصالته وتاريخه والغرب بثقافته وتحضره ، ويتم إسدال الستار عن قصة واحدة من أكثر السيدات التي عشقها كثير من الشعوب ، وليس فقط الشعب الباكستاني . إنها واحدة من الزعامات التي سيتذكرها التاريخ وستحفظ قصتها الأجيال ، لا باعتبارها أصغر رئيسة وزراء في العالم ، عندما تولت رئاسة الحكومة في باكستان عام 1988 ، ولا لأنها أول رئيسة وزراء لدولة إسلامية في العصر الحديث ، و لكونها واحدة من أجمل خمسين امرأة في العالم ما جاء في استطلاع الرأي الذي أجرته مجلة " People " في نهاية عام 2007 ، ولكن لأنها امرأة وقفت بشجاعة لا بينظير لها في وجه الحكم الدكتاتوري ، وتبنت رؤية إصلاحية حقيقية حلمت بأن تنفذها في باكستان ، واستطاعت أن تهزم الخوف داخلها ؛ حتى لا تسمح لنفسها بالتراجع أو الانسحاب من مواجهة حقيقية ، وجهاً لوجه مع الفساد السياسي في بلادها .
أعدم ذو الفقار علي بوتو الزعيم الباكستاني الكبير مؤسس حزب الشعب الباكستاني عام 1967 على يد الدكتاتور ضياء الحق في الصباح الباكر من يوم 4 أبريل عام 1979 ، فهل كان الثأر هو السبب ؟ هل صنعت دماء الأب تاريخ الابنة ؟ هكذا سألت الصحفية نوال مصطفى ، لتجيب عليها بينظير تحكي قصة ذو الفقار علي بوتو وضياء الحق وهي القصة الأشهر في تاريخ باكستان المليء بالمفارقات والمتناقضات ، بالدماء والاضطرابات والعنف ، والتي لم تنته بموت ذو الفقار بل قامت معظم أحزاب الوسط واليسار بقيادة حزب الشعب وشكلت في عام 1980 الحركة الوطنية من أجل استعادة الديموقراطية ، ومنذ البداية طالبت الحركة الوطنية ضياء بالاستقالة وإنهاء الأحكام العرفية وإجراء انتخابات جديدة واستعادة مواد الدستور التي ألغاها .
في 17 من أغسطس عام 1988 تحطمت الطائرة التي كانت تقل الرئيس ضياء والسفير الأمريكي أرنولد رافاييل ، وقائداً آخر بالجيش الأمريكي ، و28 من الضباط العسكريين بالجيش الباكستاني ، والطائرة كانت متوجهة بهم لمعاينة بعض الدبابات الأمريكية لشرائها . ووفقاً للدستور فإن رئيس مجلس الشيوخ غلام إسحاق خان أصبح رئيساً لباكستان بالنيابة ، وأعلن أن الانتخابات المقرر إجراؤها في نوفمبر 1988 سوف تتم في موعدها ، وكانت بوتو في الأشهر الأخيرة من هذا العام الأكثر إثارة ، حيث استطاعت في أو انتخابات عامة تجري منذ أكثر من 10 سنوات أن تحصد أكبر نسبة من المقاعد في الجمعية الوطنية ، وهو ما خولها لتتزعم حكومة ائتلافية في 2 يناير عام 1988 وتصبح بذلك أصغر امرأة " 35 عاماً " وأول امرأة ترأس حكومة دولة إسلامية في العصر الحديث ، وأول رئيسة وزراء تلد وهي في الحكم .
وعندما سألتها نوال مصطفى : أنت ابنة زعيم سياسي كبير ونشأت في بيت يتنفس سياسة ، فهل ولدت بحب عميق في داخلك للعمل السياسي ؟ وهل أنت مصرة على المضي في طريقك وخوض معركتك لمواجهة كل التحديات التي تواجهك ؟ ردت بينظير قائلة : أنا لم أولد بحب السياسة إنما جئت هنا بعد سلسلة من الأحداث التي دفعتني إلى هذا القدر ، أنا أذكر أن أبي قال لي ذات مرة : بالنسبة لي السياسة غرام رومانسي مع الشعب . وأذكر أيضاً قول السيدة أنديرا غاندي : إن السياسة بالنسبة لي واجب . أما أنا فلا أستطيع أن أقول إنه كان عندي حب للسياسة ؛ فقد كنت أرى أن الحياة العائلية تتأثر كثيراً بالسياسة ؛ فكان أبي يبعد عنا أياماً كثيرة وكنا نفتقده ، وعندما رأيت التهديدات والقهر اللذين تعرض لهما وهو سجين سياسي لم أشعر فعلاً بحب السياسة .
وأيضاً عند سؤالها عن فترة الحمل وهل قللت من نشاطها ؟ قالت : أنا لا أحب أن أعلق على مسائل شخصية ، ولكنني لا أرى تعارضاً بين أن تكون لدي عائلة وبين أن يكون لي دور عام ، وخلال فترة الحمل قمت بعملي بالنشاط نفسه ، وعلى العالم أن يتخلص من أفكاره البالية وينطلق نحو عمل أفضل والأكثر من ذلك أن القرآن الكريم نص على المساواة بين الرجل والمرأة ، وسوف يجني كل منهما ما فعل يوم الحساب .
وبعد أن تركت الحكم وبقيت عشر سنوات متنقلة بين بريطانيا والإمارات العربية قررت العودة إلى باكستان لاستئناف حياتها السياسية مرة أخرى ، وتقول نوال مصطفى : استعد أنصارها لاستقبال زعيمة حزب الشعب زعيمة المعارضة في نهاية شهر أكتوبر عام 2007 ، واحتشدت الجماهير لاستقبالها ، ولكن فجأة وقع أخطر حادث إرهابي لها ، فقد تعرض موكبها لتفجيرين شديدين استهدفا اغتيالها ، ولكن القدر كتب لها النجاة وإن قتل 129 شخصاً من أنصارها بجانب مئات المصابين ، لم تخف بينظير بوتو بل زاد عنادها وإصرارها على الاستمرار في المطالبة بعودة الديموقراطية إلى بلادها والمشاركة مع أنصارها في المظاهرات التي تطالب برويز مشرف بإعلان موعد محدد للانتخابات التشريعية الجديدة كما تطالبه بالتخلي عن قيادة الجيش قبل 15 نوفمبر ، وهو موعد نهاية البرلمان الحالي والتاريخ المقرر لأداء برويز مشرف اليمين كرئيس لولاية ثانية .
فرض عليها الجنرال برويز مشرف ـ الذي يحكم البلاد بعد انقلاب عسكري قام به ـ الإقامة الجبرية في بيتها زاعماً أن في ذلك ضماناً لسلامتها وخوفاً على حياتها من الاغتيال ، لكنها كسرت الحصار ونزلت إلى الشارع لتشارك في المظاهرات ، وهي تقول " سأواصل النضال من أجل حقوق الشعب الباكستاني ووضع حد للدكتاتورية التي تخنقه " ، وأمام إصرارها اضطر برويز مشرف إلى إلغاء الحظر عنها ، وعادت المرأة الحديدية إلى السيطرة على أخبار الصدارة في الدنيا كلها.
وهكذا ظهرت مرة أخرى بينظير بوتو ؛ الأم لثلاثة أبناء والزوجة لرجل أصابتها سمعته المشبوهة في مقتل ، ظهرت مرة أخرى لتؤكد من جديد أنها امرأة غير عادية ، وشخصية لا يمكن عبورها دون انتباه واحترام ، لكنها في البداية والنهاية تستحق اللقب الذي وصفت به نفسها " ابنة القدر " .
لقد بكى الرجال بنظير ، ورأيناهم يضربون صدورهم بأكفهم حزناً على الزعيمة التي احتلت قلوبهم ، كان بكاؤهم كأنه النواح وأنينهم يفجر مشاعر الأسى والحزن والحنين .