عشت طفوله بائسة أقل ما يقال عنها بأنها كئيبة مظلمة وسط أسرة فقيرة لا تكاد تجد ما تسد به رمقها من الجوع...
لم أعرف طعم الحلوى والسكاكر كباقي الأطفال في طفولتي البائسة..
ومازلت أذكر كيف أننا كنا ننتظر الأعياد ومناسبات الأفراح لجيراننا وأهل الحارة لأننا نتذوق من خلالها اللحوم والفواكه التي حرمنا منها...
كانت أسرتي أسرة لا يكاد أي فرد فيها يشعر بالآخر فلكل منا عالمه الخاص، فكل فرد من أسرتي للأسف كان لديه ما يشغله من أعمال وخصوصيات يخجل قلمي من ذكرها..
كان أبي يعمل مستخدمافي أحد المعارض وراتبه البسيط لا يصل بالأسرة الكبيرة إلى نهاية الشهر بأمان، بل كثيراما تتوقف بنا سفينة الحياة في منتصف الشهر ...
كان أبي إنساناسلبياقانعامن الحياة بعشرة أطفال مشردين في الشوارع لا يعلم عنهم شيئاوربما كان لأستخدامه المخدرات في بداية حياته وكثرة دخوله وخروجه من السجن آثاراسلبيه جعلته لا مباليابكل ما حوله، كنت أشفق عليه أحياناوأنا أراه كثير الصمت والشرود ولا يحرك ساكنا.
أما والدتي !! فأعذروني إن تحدثت عنها بهذه الطريقة المؤلمة، فالحقيقة أشد إيلاما، فقد كانت تتسكع بين بيوت الحارة طوال يومها وكأنها لم تستوعب يوماأنها زوجة وأم، وكانت دائماتنظر إلى ما في أيدي الآخرين وتحسدهم وتطلبهم وتريق ماء وجهها ليجودوا عليها ببعض الفتات،
أما إخوتي،!! فحدث ولا حرج فهم يعيشون بين جنبات الشوارع، وأغلبيتهم إنحرفوا عن جادة الصواب، حتى إخوتي،(البنات) لم يقمن وزناللأخلاق ولا للشرف ولا حتى لنظرة المجتمع، والكارثة، أن إخوتي بمجرد وصولهم إلى الصف الرابع إبتدائي فإنهم يتركون الدراسة من غير سبب.
في ظل هذه الأحداث من حولي، عشت هذه الطفولة البائسة وأنا كارهة لوضعي ناقمة على أمي وأبي اللذين تجردا من أشرف وأسمى لقب في الوجود. كنت متمسكة بدراستي وبقوة وكنت من المتفوقات بالرغم من قسوة الظروف من حولي وتفكك أسرتي وانحرافهم جميعًا.
وسأحدثكم الآن عن اليوم الذي غير مسار حياتي للأبد وفيه بدأت مأساتي الحقيقية والتي لولا إيماني بالله لما تجاوزتها.
فحين حصلت على شهادة الصف الثالث متوسط وأنا الوحيدة من أسرتي التي وصلت إلى هذا المستوى، تقدم رجل لخطبتي من أبي وكان عمري حينها ١٥عامًا, أما هو فكان عمره ٦٠ عاما ومصاب بالضغط والسكر وزيادة عليها كان مدمنا وتاجر للمخدرات، مما جعلت تجارته هذه تجني أرباحًا كثيرة، وهو السبب الوحيد الذي جعل لعاب أبي وأمي يسيل ولا يكاد يقاوم الإغراء المادي الذي يتراقص أمامهما بكل بريق ولمعان، ومن دون تردد
وافقا ولم يأخذا أذني، فصرخت في وجهيهما وقلت: لا أريده، أريد أن أكمل دراستي زوجوه أختي الكبري، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقد تم زفافي وسط جو كئيب ولم تبالي أمي بي. أتعلمون ما أول شئ وضعته أنا في حقيبتي ؟!
وضعت دروسي وكتبي، ودخلت داري الجديدة، عفوا أقصد سجني، وبمجرد أن أغلق الباب وراءه بدأ بإفتراسي بكل وحشية، وبعد أن انتهى من جريمته تناول شرابه الكريه واستلقى مثل الثور على فراشه.
ولكم أن تتخيلوا فتاة في الخامسة عشر من عمرها في هذا الموقف المروع. الذي اغتال آدميتها ونقاءها.
خمس سنوات مرت من عمري دفعت ثمنها كفاتورة قاسية للجشع والطمع اللذين أعميا أبصار أهلي.
خمس سنوات من عمري دفعت ثمنها غالياوذقت فيها كل ألوان العذاب من ضرب بالسياط والنعال _أكرمكم الله_ والحبس والحرمان من الطعام، كل ذلك لم يقهرني بقدر ما قهرني وجعلني أنزف من الداخل حرماني من الدراسة ورفضه التام لذهابي إلى المدرسة، أصبحت أشبه هيكل عظمي نتيجة الهم والغم، ولكن الله الرحيم يشاء أن يهبني أطفالايشغلونني، أنجبت ولدين وبنت خلال ( 5 سنوات) فقط. كان عمري حينها (20 عامًا) وعاهدت نفسي أن أجنب أطفالي جميع ما مررت به في طفولتي ولكن أنى لي ذلك وأبوهم إنسان متجرد من شرف الأبوة. فبمجرد أن يشرب الخمر فإنه يقوم بضربي وإياهم. أتدرون أنني في أغلب الليالي الطويلة كنت أحتضنهم وأنام وإياهم ونحن جالسين خوفا من أن يقوم بقتلنا كما كان يتوعد. أما حين يكون بحاجة إلى المخدر ولا يجده فإنه يقوم بتحطيم الأثاث وطردي واطفالي إلى الشارع، وكثيراما يقوم جيراننا الطيبون بإيوائنا رحمة وشفقة بنا.
لعلكم قد تتساءلون عن دور والداي؟
أسمحوا لي أن أصدمكم: فقد كانا لا يحركا ساكناكعادتهما.
كنت أدعوا الله في الليالي المدلهمة أن يفرج كربتي ويزيل عني هذا البلاء الذي تعجز نفسي على إحتماله.
وقد أستجاب الله لدعائي!!
ففي ذات يوم سمعت صراخ الجيران من حولنا وهم ينادوني: يا أم فلان، زوجك .. زوجك!!
ركضت أنا وأطفالي مسرعين لنرى ما حدث، لقد قام زوجي بالعراك مع رجل من زبائنه اختلف وإياه على ثمن قطعة هيروين، فتطاعنا بالسكين، فطعنه زوجي ومات على الفور.
لقد شاهدت زوجي المجرم وقد تلطخت ملابسه بالدماء وهو يرتجف بين أيدي الشرطة، كانت شفتاه تميلان إلى اللون الابيض من هول الموقف. أما عيناه فقد كانت زائغتان ينظر إلى الناس من حوله بذهول.
أما أنا فلا تسألوني عن مشاعري المضطربة، لا أدري هل هي لحظات سعادة أم شماته انتظرتها منذ زمن طويل أم هي مشاعر ألم هيجتها ذكرياتي المؤلمة، لم أشعر إلا وأنا أردد لا شعوريا: الحمد لله، الحمد لله.
تذكرت تلك الليلة الحزينة ليلة زفافي الأليمة حين وجه إلي طعناته النافذة، واغتصبني بقسوة رجل سكير يحمل بين جنبيه قلب من صخر لا رحمة فيه ولا شفقة، تذكرت جراحي النازفة وثيابي الممزقة، وإرتجافي بين يديه بخوف، لم أكن أعلم إلى أين أفر، ولم يكن لي مهرب تذكرت دموعي الساخنة
في تلك الليلة السوداء.
بعد أسبوع فقط من القبض عليه وقبل حتى أن تبدأ محاكمته، أصدرت عدالة الله حكمها فمات بعد ارتفاع الضغط وإصابته بنزيف دماغي.
كنت أنظر في منزلي، بصقت على دولاب ملابسه، وعلى كؤوس خمره وعلى سوطه الذي ألهب جسدي وجسد أطفالي، بصقت على كل شبر في منزلي سار عليه، وجاءت أسرتي تعزيني بوفاته وأنا التي لم أرهم منذ سنتين.
كانت أول كلمة قالتها لي أمي حتى قبل أن تسلم علي.
قالت الله يرحمه: هل عنده ورث ؟؟!!
ولولا خوفي من الله لطردتها، ومن تصاريف الله أن زوجي كان مديون وحين علمت أسرتي بذلك لم أعد أراهم فقد خافوا أن أشكل عليهم عبئاإضافيا أنا وأطفالي.
شعرت بالألم الممزوج بالقهر. فيالها من بيعة خاسرة تلك البيعة التي عقدها أهلي مع ذلك الجلاد.
وفضل أهلي الهرب بعيداعني.
جلست أفكر فأنا أرملة جميلة في العشرين من عمري وعندي 3 أطفال وليس لدي أي مصدر للرزق، وأمامي طريقان:
الأول هو طريق الكفاح والصبر والثاني هو طريق الكسب السريع حيث أبيع أنوثتي للراغبين في إمرأة وحيدة مثلي.
واخترت الطريق الأول بلا تردد، وكان أول ما فعلته أنني بعت آخر قطعة ذهب ورحلت عن منزلي الأول الذي شهد أسوأ ذكرياتي.
وانتقلت أنا وأطفالي إلى مدينة بعيدة واستأجرت غرفة صغيرة بحمامها فقط، واشتريت موقدًا صغيرًا وسريرا مستعمل لي ولأطفالي، وبعض الأواني القديمة المستعملة، وأنا أعترف لكم بأن هذه الغرفة حقيرة حتى في نظر الفقراء. ولكن ما جعلها مثل الحلم في نظري هو أنني وحدي فيها مع أطفالي فأنا التي أحدد مصيري بعد إرادة الله طبعا.
بدأت أبحث عن عمل شريف، ولقد سخر الله لي جيران طيبين ساعدوني كثيرا فقد كانوا يتصدقون علينا ببعض الطعام والملابس القديمة وأحسنوا إلي فجزاهم الله عني خير الجزاء، ووجدت عمل حكومي كمستخدمة في أحد المدارس الثانوية القريبه من بيتي، ولا أنسى أول راتب قبضته في حياتي كان بسيط ولكن دموعي انهمرت لحظة استلامه بكيت كثيرًا وحمدت الله على رزقه وإعانتي على لقمة العيش.
اشتريت لأطفالي ملابس جديدة وألعاب وطعاماطيباولأول مرة منذ أربعة أشهر أطبخ دجاجالأطفالي!!
واشتريت لهم بسكويتاوشوكولاته .. كنت أرى السعادة في أعينهم.
مرت سنة كاملة وأنا في وظيفتي استطعت أن أكسب احترام مديرتي وتعاطف المعلمات وحب الطالبات، وذات يوم.
سألت نفسي: لماذا لا أكمل تعليمي الثانوي خاصة أنني في مدرسة ثانوية ؟
عرضت الأمر على مديرتي فشجعتني وقدمت أوراق انتسابي وكان صدفة أن ابني البكر يدرس في الصف الأول ابتدائي وأنا أول ثانوي، اجتهدت في دراستي بالرغم من الأحمال الملقاة على عاتقي كأم وموظفة وطالبه!!
وفي خلال 3 سنوات حصلت على شهادة الثانوية العامة بنسبه 97 % بكيت كثيرا وأنا أرى بداية الخير وأرى ثمار جهدي بدأت تنضج.
انتقلت من عملي مستخدمة وقدمت على وظيفة كاتبة في إحدى الدوائر الحكومية. براتب جيد بالإضافة إلى تقديم أوراق انتسابي إلى الجامعة [قسم تربية إسلامية] استأجرت شقة صغيرة مكونة من غرفتين وصالة ومطبخ ودورة مياة ولأول مرة يدخل التليفزيون إلى بيتنا بعد أن أخذت سلفه من البنك أثثت فيها الشقة.
وبدأت ارتاح في حياتي، خاصة أن أطفالي دخلوا المدارس وأصبحوا متفوقين دراسيا وأخلاقيا.
حاولت أن أعوض أطفالي واشتري لهم كل ما تهفو إليه أنفسهم. وكونت علاقات صداقة مع زميلاتي وأخوات لي في الله كن نعم العون لي فكنا نذهب في نزهات وزيارات، وكل ذلك من أجل أن أرفه أبنائي.
مرت أربع سنوات عصيبة حصلت من خلالها على البكالوريوس بتفدير إمتياز مع مرتبه الشرف.
وبعدها تم وبفضل الله تعييني مدرسة ثانوية .. كان ابني الكبير في الثالثة عشر من عمره واحتضنني وقال: أنتي أعظم أم أنا فخور بك.
واحتضنتهم جميعاوظللنا نبكي بلا شعور لساعات، ولأول مره أقبض مرتباضخماتصدقت بنصفه كشكر لله ونصفه الباقي اشتريت لأطفالي جميع ما يحتاجون، وبدأت أدخر جزء كبير من مرتبي لكي أبني به منزل خاص لي، وقدمت على الماجستير وحصلت عليها خلال سنتين فقط بتفدير إمتياز مع مرتبه الشرف.
وبدأت في بناء منزلنا المكون من طابقين به عشر غرف وصالتين ومطبخ ومستودع وحديقة كبيرة ومسبح، ثم قدمت على الدكتوراه وكان مشوارها صعبا جدًاجدًاجدًاخاصة أن أطفالي بدؤا يكبرون وكان الإرهاق يكاد يقتلني وأنا أشتت نفسي بين عملي كمعلمة وبين مذاكرتي للدكتوراه وأبحاثي وبين مذاكرة أولادي وبين الإشراف على البناء والتأثيث، والذي كان أثاثاضخماورائعًا.
وحصلت على درجة الدكتوراه وتم تعييني كأستاذة في الجامعة وكان عمري حينها ٣٧ سنة.
أتعلمون لحظة استلامي لشهادتي بمن فكرت ؟
لقد فكرت بأمي، ترى لو رأتني في هذا المشهد فهل كانت ستبكي من الفرح، أم أنها ستسألني عن العائد المادي الذي سأجنية من وراء ذلك ؟!!
ولكن لا تعتقدوا أني عاقة لوالدتي أو أنني لم أحاول صلتها في ما مضى ! بالعكس لقد ذهبت إليها أكثر من مرة ووجدتها كما هي لم تتغير !!
أما أبي فقد توفي بعد زوجي بسنة وقد كنت أرسل لها من مرتبي.
أما إخوتي وأخواتي فلم يكن يشرفني التعرف إليهم أو تواجدهم في حياتي فابتعدت عنهم من أجل أبنائي.
أبتسمت الحياة لي بعد عبوس طويل.
وأنا الآن أخبركم عن وضعي أنا وأبنائي: أنا الآن لي مركزي الإجتماعي وأعيش في بيت فخم وعندي الخدم والسائقين.
أما أبنائي: فقد تخرجوا جميعًا من جامعاتهم العلمية.
ابني الكبير أصبح طبيبا جراحا، وابني الثاني مهندس معماري، وأبنتي الصغرى طبيبة أطفال، وقد زوجتهم جميعًاوأصر ابني الأكبر أن يعيش هو وزوجته معي فملآ علي البيت بالحياة وضحكات أحفادي، وها أنا الآن في الخامسة والخمسين من عمري .. والحمد لله.
قصتي هذه، أهديها لكل يائس، ومحبط، لعل بها من بصيص الأمل ما يبدد لحظات اليأس في حياته.
وصدقوني لو أستسلمت لليأس ولحظاته المريرة لما وصلت إلى هذه الحياة التي أعيشها الآن بفضل الله ثم بفضل تمسكي بالأمل.
صدقوني ومن تجربة خضتها واستطعت النجاح فيها، ليس هناك أجمل من التفاؤل، والتشبث بالأمل حتى وإن كان صغير.
الله كريم فلا يتسلل اليأس لقلوبكم.
منقول