6 ـ التبرير
من الوظائف الأساسية لأية إيديولوجيا تقديم تبريرات وعقلنات لممارسات المنضوين ولاختياراتهم ومواقفهم. وإنتاج التبريرات ليس بالضرورة تقديم تفسيرات وتحليلات بل تقديم تأويلات للوضعية تجعل الممارسات والاختيارات مستساغة مشروعة. وآلية إنتاج التبريرات آلية لا تنتهي، وهي موجهة للمنضوين والمتعاطفين كما هي موجهة للآخرين، ويعتبر جان بخلرJ.Baechler إنتاج التبريرات عملية تقتضي إضافة معلومة جديدة كل مرة حتى يكون التبرير ناجعاً وفعالاً. لكن إضافة معلومة جديدة كل مرة يدخل عنصراً جديداً في المتن النظري والعملي للايديولوجيا ويلغي طهارتها وادعائها للصفاء، كما يؤدي إلى تدشين حرب التأويلات والتأويلات المضادة مما يتسبب في خلافات وخصامات وما يرتبط بها من ارتداد وهرطقة. لذلك تعتبر عملية التبرير هي السبب الرئيسي في التفرع والتكاثر الايديولوجي(11).
وبإمكاننا أن نميز داخل هذه الوظائف بين الوسائل والغايات بحيث تغلب إحداهما على الأخرى أو يتوازنان أحياناً داخل الوظيفة الواحدة.
الايديولوجيا والمؤسسات
سواء تعلق الأمر بالايديولوجيات الاجتماعية، أو بالايديولوجيات السياسية أو حتى بالايديولوجيات الثقافية، فإن الأمر إنتاج الايديولوجيات وتوزيعها على الأفراد ليس مسألة اعتباطية، ومتروكة للصدفة. بل إن المجتمع ينظم عملية إنتاج وتوزيع الايديولوجيا الرئيسية أو الايديولوجيات الفرعية عبر قنوات ومؤسسات.
وإذا كان البعض يتحدث عن بنية إيديولوجية أو قطاع إيديولوجي أو مجال إيديولوجي فإن هذه الكيانات خاضعة لتنظيم اجتماعي محكم ولتأطير اجتماعي لأن إنتاج الايديولوجيا هو إنتاج للوقود الذي يحرك المجتمع ويشده كبنيان.
وإذا كانت هناك إيديولوجيا تلقائية فإنما هي الايديولوجيا التي ينتجها المجتمع تلقائياً عبر مؤسساته الايديولوجية. ونحن نستعمل مصطلح مؤسسات إيديولوجية بدل أجهزة إيديولوجية لأن الأولى تعني كل المؤسسات الاجتماعية المشتغلة بالايديولوجيا في حين تعني الأجهزة الايديولوجية الأدوات التي تتملكها طبقة معينة لإحكام سلطتها وإقرار سيطرتها. فالمدلول الأول مدلول سوسيولوجي في حين أن المدلول الثاني مدلول سياسي ومرتبط بالوظيفة السلطوية للإيديولوجيا. لذلك هناك من يتحدث عن أجهزة إيديولوجية للدولة وهذا أمر يرتبط بوجهة النظر الماركسية حول الدولة وهو أمر لا يهمنا هنا، وهناك من يتحدث عن مؤسسات إيديولوجية يكل إليها المجتمع أو الطبقة أو الحزب أو الدولة أمر إنتاج أو إعادة إنتاج وتوزيع الايديولوجيا.
إذا كانت الايديولوجيا هي مجموعة التمثلات الاجتماعية والقيم والتوجيهات التي يكونها المجتمع أو النظام عن ذاته بهدف تأطير الأفراد وضبطهم اجتماعياً وجعلهم يتصرفون ويسلكون في تلاؤم معه ومع أهدافه.
فإن مهمة المؤسسات الايديولوجية هي إنجاز هذه الأهداف ووضعها موضع التطبيق. فالحديث عن المؤسسات الايديولوجية هو الحديث عن كيفية إنتاج الايديولوجيات، وعمّن ينتجها، وعمّن يستغلها ويستهلكها ويروّجها، وما هي القنوات التي تمر عبرها الدورة الايديولوجية.
فالجديد في البحث حول الايديولوجيا هو اكتشاف قوامها المادي والمؤسسي، بمعنى أنها ليست فقط مجموعة أفكار أو قيم أو تمثلات أو رموز، بل إن كل هذه الأشكال التعبيرية تتشخص في مؤسسات تتولاها بالاعداد والتعهد وتتولى أمر تشذيبها وتوزيعها على نظام اجتماعي واسع.
يميز العديد من الباحثين بين ما يسمونه الأجهزة القمعية والأجهزة الايديولوجية للدولة. وذلك انطلاقاً من أن كل سلطة سياسية تقوم بالضرورة على العنف الفيزيقي وعلى العنف الرمزي. فالثاني ملازم للأول ومكمل أو احتياطي له. وكلا العنفين يتخذ صبغة مؤسسية ويرتبط بقواعد وطقوس. ودور الأجهزة الايديولوجية للدولة هي إعادة إنتاج النظام الاجتماعي كما هو، من خلال وعبر مجموعة من الأدوات أو الأجهزة المدعوة بالايديولوجية.
وهكذا نجد ألتوسير، انطلاقاً من هذه النظرة يقدم لائحة ـ يعتبرها تجريبية وغير وافية ـ للأجهزة الايديولوجية للدولة وتضم الجهاز الايديولوجي الديني، والجهاز المدرسي والجهاز العائلي والجهاز القانوني والجهاز السياسي والجهاز النقابي والجهاز الاعلامي والجهاز الثقافي(12).
أما روبير فوساري (R. Fossaret) فيقدم في كتابه «المجتمع» (الجزء 3 : الأجهزة) لائحة معدلة بنفس العدد، وذلك انطلاقاً من التمييز القوي بين الخطاب الإيديولوجي والجهاز الإيديولوجي(13).
1 ـ الجهاز الكنسي: فالدين، مثله مثل القانون خطاب إيديولوجي يمكن البحث عنه في مجال محدد، وليس جهازاً، في حين تشكل الكنيسة جهازاً منتجاً وموزعاً للايديولوجيا.
2 ـ الجهاز المدرسي: من الحضانة إلى الدراسات العليا وبشقيه الرسمي وغير الرسمي يمثل أقوى الأجهزة الايديولوجية.
3 ـ الجمعيات: حيث تتموضع التعاونيات المهنية والنقابات والأحزاب وكل الروابط والجمعيات المتجهة نحو التعبير ـ الدفاعي أو الهجومي، التمردي أو المحافظ ـ عن مصلحة اجتماعية ما. أي كل الجمعيات التي يربط بينها جميعاً كونها تعبر عن مصالح تجاه أو ضد وأحياناً في سلطة الدولة.
4 ـ جهاز يمكن أن يقال عنه أنه إخباري لكن أدعوه بجهاز النشر حتى يضم من الناسخين القدماء إلى الاذاعة والتلفزة والكاسيت(14) أو الفيديو.
5 ـ جهاز ثقافي واسع يضم الفنون والرياضات والملاهي والألعاب والأوبرا واليانصيب والمتاحف والرسم، والتراجيديا والنوادي الترفيهية والسياحية.. إلخ.
6 ـ جهاز المساعدة والخدمات: وهو جهاز اتخذ حجماً كبيراً في المجتمعات الحديثة. ويضم الصحة والاحسان والضمان الاجتماعي. وهو يشتغل كما لو كان لحيقاً للجهاز الكنسي. ويقدم خلاصاً أرضياً أكثر مما يقدم خلاصاً سماوياً.
7 ـ أجهزة البحث العلمي سواء في الطبيعة أو في المجتمع. لأن العلوم مثلها مثل القانون والدين والفن ذات نتائج ايديولوجية واضحة.
8 ـ وهناك أشباه أجهزة تقوم بنشاطات إيديولوجية متعددة ونصف متخصصة، وهي المنتديات والمقاهي.
من خلال هذه اللائحة الموسعة يبدو أن فوساري ـ كما يلاحظ هو نفسه ذلك ـ قد جمع بين الأجهزة النقابية والحزبية، وأضاف إلى القائمة الأولى ثلاث مقولات هي: المساعدة، البحث العلمي، وأشباه الأجهزة. بينما تغافل عن الجهاز الإيديولوجي القانوني والعائلي. فالأول ينتمي إلى الجهاز التشريعي والقانوني. أما العائلة فهي ليست جهازاً إيديولوجياً لأنها ليست جهازاً خاصاً خاضعاً لتقسيم تخصص للعمل، بل إنها تعم المجتمع كله. فهي شكل اعتيادي من أشكال التنظيم الاجتماعي، لها بالبداهة بُعد إيديولوجي، لكنها ليست جهازاً إيديولوجيا. فهي ذات وظائف متعددة، وهي نقطة بؤرية للبنية الاجتماعية(15).
والنقد الذي وجهه فوساري لألتوسير بصدد الأسرة قابل للتعميم. فما اعتبره هذان الباحثان جهازاً إيديولوجياً هو مؤسسة اجتماعية ذات وظائف متعددة.
فالأسرة مؤسسة اقتصادية ذات وظيفة إنتاجية واستهلاكية في السوق الاقتصادية. وهي بالإضافة إلى ذلك مؤسسة اجتماعية بمعنى أنها مؤسسة يتم فيها تنظيم التعاون بين أفراد تجمعهم رابطة دموية وقانونية. وهي بالتالي أداة للامتثال والتكييف الاجتماعي، وهي كذلك مؤسسة سيكولوجية يعاد فيها توزيع الطاقة النفسية للفرد حيث يتم الاستعاضة في هذه الخلية الصغيرة عن مشاعر التنافس والحقد والصراع بمشاعر المحبة والتعاضد تحقيقاً للتوازن النفسي للفرد. وهي كذلك مؤسسة تنظيمية للجنس بمعنى أنها الإطار الرسمي الذي ينظم فيه وبه المجتمع عملية الإشباع الجنسي مقابل الانخراط في المجتمع والامتثال لقيمه وتقاليده. وبالارتباط مع ذلك فهي أداة الإنتاج الديمغرافي للمجتمع لتحقيق استمراره. وهي أيضاً مؤسسة دينية وأخلاقية لأنها ركن ديني وأخلاقي أساسي يحقق للفرد شعوره برضى المجتمع والدين. وهي أيضاً مؤسسة ميتافيزيقية يحقق فيها الفرد رغبته في استمرار الفرد والنوع. وهي فوق هذا وذاك مؤسسة إيديولوجية عن طريقها يحقق المجتمع لا إعادة إنتاج نفسه على المستوى الكمي الديمغرافي بل أيضاً على مستوى القيم والعلاقات. فالتنشئة الاجتماعية تتم بالدرجة الأولى في الأسرة وضمنها ونستطيع استبانة خطورتها في التكوين الايديولوجي والاجتماعي للفرد عندما نتبين المدة الطويلة التي يقضيها الفرد في حضن أسرته، ونسبة الوقت اليومي الذي يقضيه في كنفها.
فالمؤسسات الواردة في القائمة ليست كلها مؤسسات إيديولوجية مائة بالمائة، بل هي مؤسسات متعددة الوظائف. ومن بين هذه الوظائف الوظائف الايديولوجية. وقد سردنا مثال الأسرة كمؤسسة اجتماعية ذات وظيفة إيديولوجية. وهو مثال يمكن تعميمه على كل المؤسسات المدعوة بالمؤسسات الإيديولوجية. فالمؤسسة المدرسية مثلاً هي أقرب المؤسسات الاجتماعية إلى كونها مؤسسة إيديولوجية من حيث أن وظيفتها الأساسية هي تزويد زبائنها بمتاع فكري ذي صبغة إيديولوجية، أي يقدم لهم صورة عن مجتمعهم وعن ذواتهم ويوجه تفكيرهم لصالح الايديولوجيا السائدة. إلا أن المدرسة بالإضافة إلى وجهها الإيديولوجي داخلة ضمن تقسيم العمل الاجتماعي. فدورها هو تزويد المتلقي بمعارف وخبرات تؤهله لينخرط بشكل فاعل في المجتمع، وليحصل على عمل في المستقبل. فهي تنتمي ـ بالمصطلح الاقتصادي ـ لقطاع الخدمات، سواء كانت هذه الخدمات عملية أو نظرية. هذه بالنسبة للمدارس الرسمية، أما بالنسبة للمدارس الخاصة فهي مؤسسات تجارية هدفها بيع معارف وخيرات لمستهلكين مقابل أداء ثمن معين، لكنها لا تستطيع الخروج من إطار المراقبة والتوجيه الإيديولوجي الذي تمارسه الدولة عليها. لذلك نميز بين مستويين في أدائية المؤسسات الاجتماعية: أدائية رئيسية وأدائية ثانوية. فالأداء الرئيسي للمدرسة أداء مزدوج: معرفي وإيديولوجي بجانب أداءاتها الثانوية الأخرى.
لذلك نستطيع المغامرة بالقول بأنه ليست هناك مؤسسات إيديولوجية «خاصة» أو محضة. بل هناك مؤسسات اجتماعية ذات وظائف متعددة من بينها الوظيفة الايديولوجية، نعم قد تكون الوظيفة الايديولوجية أساسية في هذه المؤسسة أو تلك، كما هو الأمر في المؤسسات الثقافية والتعليمية الإعلامية، لكن هذا لا يعني أنها وظيفتها الوحيدة. وهذا ما يجعل الايديولوجيا في العمق فاعلية مرتبطة بمؤسسات اجتماعية أو متشخصة عبرها. وبالتالي فإن المؤسسات الايديولوجية هي كل المؤسسات التي تسهم ـ بصورة متخصصة في صناعة وتسويق تمثل معين للعالم(16). قد تكون هذه المؤسسات سياسية صرفة أو مؤسسات اقتصادية أو ثقافية أو إعلامية أو دينية أو سلطوية أو خيرية أو صحية أو بحثية أو ترفيهية أو غيرها. هذا مع التمييز بين المؤسسات الأقرب من حيث طبيعتها إلى الايديولجيا كالمؤسسات الثقافية والاعلامية والدينية والمدرسية والمؤسسة العائلية، والمؤسسات الاجتماعية الأخرى.
وإذا كنا قد أطلقنا اسم المؤسسات على مثل هذه التنظيمات فذلك فقط من باب التعميم لأن لائحة المؤسسات هاته تضم جمعيات وروابط، (كما هو الأمر بالنسبة للنقايات) ومنظومات من القواعد (مثل الأجهزة التشريعية)، وعدد من المؤسسات (كالمدرسة) وغيرها.
كما أنه إذا كان المقصود بالمؤسسات لا فقط مجالات إنتاج وتوزيع المنتوجات االإيديولوجية، بل أيضاً الصبغة المادية «والشيئية» للإيديولوجيا فإن الإيديولوجيات ترتبط برموز مادية أخرى كالأعلام والرموز والصور والأشكال والتماثيل والأناشيد والألوان وغيرها.
ومعظم هذه المؤسسات ذات وظيفة مزدوجة اجتماعية وسياسية. وبالتالي يمكننا أن نقوم بالتمييز بين المؤسسات ذات الطابع والوظيفة الاجتماعية المهيمنة والمؤسسات ذات الطابع والوظيفة السياسية المهيمنة كالمؤسسات السياسية، والمؤسسات المزدوجة الوظيفة. بل يمكن أن نتحدث عن تكييف كل المؤسسات تكييفاً سياسياً في اتجاه خدمة وترسيخ أسس النظام السياسي الذي تشتغل في إطاره، وذلك بتسخير المكونات الأساسية للمجتمع في اتجاه دعم النظام السياسي.