قصة ليست كغيرها من القصص، تميزها عذوبة الأفكار
ونكهة الأحداث، وطرافة المواقف، وغرابة الوقائع، إنها حكاية جزائرية احتفظت بها
القرون في ذاكرة الأيام….
يومئذ كانت الطبيعة في عيدها تتباهى… تختال من سحرها.. تغازل الأوراس بأسرارها البديعة. الأوراس آية
قدسية وهبها الخالق البديع للأرض في عيد الطبيعة، هذه اللوحة الفنية فسيفساء
البهاء العذرى.. نقرأ في تضاريسها المرسومة على جبين سكانها ماضي أمة، يجر خلفه
حضارة تبدأ من فجر التاريخ، في رحمها قصص كثيرة لمواقف الرجولة والبطولة….
الأوراس عالم فريد من نوعه، يبدو من بعيد كأنه
كتلة ضخمة، تشرق على الدنيا… يمنح أفقها أشعة الشمس
ونور القمر ووميض البرق وحبات البرد… فنتردد في اقتحام هذا
العالم العجيب لأن التوغل فيه صعب..
كل الطرق تؤدي إلى الأوراس، أولها الطريق
الشمالي حيث المرتفعات القسنطينية تفترش السبخات… وأجملها الطريق الجنوبي
المزين بحدائق النخيل وواحات العسل والتمور الممتدة كسجادة منقوشة بسطها الأوراس
لعروس الزيبان بسكرة!!.
إن من يتوغل في جبال الأوراس يجد نفسه أمام منظر
طبيعي في غاية الجمال والتنوع، وجه الأوراس كوجه التاريخ.. صحراء من الصخور تلد
صحراء من الحصى.. قمم ووهاد.. مرتفعات ومنخفضات.. أودية كثيرة تعانق رياضاً ساحرة،
وحدائق من النخيل تناظر غابات من شجر الأرز.. أو هذه الهضاب العليا التي تتزوج
الفصول فتلبس لكل واحد حلته وأجملها الحلة الثلجية البيضاء عندما تنعكس منها أشعة
الشمس، فتطبع قبلات الصباح على تاج الأوراس الناصع البياض… فيبدو كسبيكة ليس فيه موضع
أحسن من موضع.
في وسط هذه الطبيعة الغريبة تبدو القرى في شكل
مجموعات من الحصون والقلاع الحجرية المحروسة بأسوارها العتيدة المعزولة عن العالم
في رأس جبل أو شاطئ صخري كأنها في سبات عميق….
"الشاوية" سكان الأوراس منذ الأزل،
يعيشون في منحدرات الجبال التي تحتضنهم كالأم الحنون، يحتمون بها من غضب الطبيعة،
ويستمدون منها لون بشرتهم، ومن صخورها طبيعة مزاجهم… الصلابة والجفاء.. ومن ثم
تميزوا عن غيرهم، وكانت طبيعة الأوراس
الحارس على وحدة الأصالة للسكان فحافظت على خصائص الأهالي…
قاوم "الشاوية" امتزاج الأجناس
واشتهروا بصد الغزاة مهما كانت قوتهم.. وهكذا تمكنوا من الحفاظ على عاداتهم
وتقاليدهم ولهجتهم ومعتقداتهم و و و … الخ.
المقاومة في الأوراس عمرها كعمر الزمان… من الرومان إلى الاحتلال الفرنسي مدة تزيد عن ألفين وخمسمائة سنة،
كان أبطال "الشاوية" على ثغورها يلحقون الهزائم بما هو غير أوراسي وكل
معاد للشاوية….
في رحاب الأوراس… تحيط بنا الشواهد
والأحداث التي نسجت الذاكرة الشعبية بقصص عجيبة غريبة، كقصة "عائشة" هل
تعرفها؟ ربما.. لكن إذا كنت شاوياً فأنت محظوظ باستيعاب أحداث قصتها…
إنها "عائشة" ملكة السحر والجمال… عائشة البلهاء.. تنافس الشمس في إشراقها والربيع في بهجته وهي
ترفل في لباسها الموشوم بأوسمة الشاوية، تعيش في قلب الأوراس متنقلة كالأميرة
الخضراء بين وادي الأبيض ووادي عبدي.. آه.. أين أنتم أيها الأمراء لكي تستمدوا من
نضرة وجهها آيات الفتنة والدلال؟!.
ها هي عائشة الجميلة بين الورود كالفراشة
المغرمة بجمال الحقول، عائشة تجد بيضة غريبة تتأملها ملياً، تحملها على عجل، كأنها
عثرت على كنز ثمين، تلتفت في جميع الاتجاهات ثم تجري مهرولة كالمجنونة… إلى مكان قصي.. لتضع البيضة في مكان أمين بين الصخور..
ماذا لو كسرت "عائشة" البيضة واتلفت
محتواها؟ هل تستطيع ذلك يا ترى؟!.
وتمر الأيام.. ترتاد خلالها "عائشة"
المكان… البيضة تفقس.. يخرج منها مخلوق صغير على شكل ثعبان.
يا للغرابة؟!. لم تأبه به "عائشة"
واصلت تجوالها بين الحقول بحثاً عن نفسها.. ماذا لو قتلت "عائشة"
الثعبان.. هل تصبح لقصتها نهاية؟ يكبر ويكبر الثعبان الصغير.. إلى أن يصير عملاقاً
يهدد أمن السكان في حياتهم ومواشيهم ومراعيهم…
احتار السكان في الأمر أياماً كثيرة لكن حيرتهم
لم تدم لقد أجبرتهم على اتخاذ قرار حاسم.. لابد من مقاومة الثعبان..
وبعد قتال مرير.. انتصر القرويون على العملاق
وطرحوه على الأرض صريعاً كالديناصور المتوحش، وتعاونوا على إحضار أكوام الحطب
لحرقه ومحو آثاره وكوموا جسمه بالحطب وأشعلوا النار، وسط الأهازيج والأغاني.. وبدأ
الدخان يتعالى حاملاً رائحة الاحتراق… وفجأة غطّت الحاضرين
سحابة من النحل القادم من كل مكان. اندهش الحاضرون وعادت الحيرة من جديد وهم
يشاهدون أسراب النحل تقبل فتمتص إفرازات جسم الثعبان المحترق كامتصاصها رحيق
الأزهار..
إنها الكارثة الكبرى.. السم في العسل.. هل سنموت
جميعاً إذا ذقنا عسل النحل الممزوج بسم الثعبان؟.
-هكذا تساءل الحاضرون.. ثم انصرفوا يفكرون في
مخرج للتأكد من أفكارهم المريبة…
-قالوا:
-"لابد أن يتطوع أحد للاختبار.. إما حياة
أو موت"
لكن من يتجرأ على ذلك؟ من يغامر بنفسه؟
بعد صمت قصير كأنه دهر، نطق أحدهم..
الحل عند الشيخ "بوراك" نطعمه العسل
لنرى النتيجة؟!
صفّق الجميع مبتهجين بالفكرة.. قائلين:
الشيخ "بوراك" في أرذل العمر.. على
حافة القبر.. إذا مات مسموماً فقد استراح من تعب الدنيا وقد أنهكه الفقر وأعجزه
الدهر.. وبذلك نكون قد أنجزنا التجربة وعرفنا الحقيقة..
ولمّا حان موسم الشهد والعسل.. بحثوا عن الشيخ
"بوراك" حتى وجدوه وقد لجب الجنبان واحدودب الظهر..
وانطفأ نور البصر، "الفم راب والرأس شاب
والظهر عاب وتفرق الأحباب.."
قدم العسل المسموم إلى الشيخ المسكين.. ووقف
الجميع في انتظار الموت المحتوم.. فأقبلت الحياة.! حدث ما لم يخطر على بال بشر،
إنها المعجزة حقاً.!!
لقد استعاد الشيخ الأعمى بصره من جديد بعد أن
تجرع العسل.!!
لم يصدق الحاضرون المشهد وحتى الشيخ بدأ يتلمس
الحاضرين بين مصدق ومكذب! ثم بدأ يستعيد شبابه، فاسود شعره واستقام ظهره وتزين فمه
بالأسنان والأضراس وعاد ربيع العمر إلى جسمه كأنه يوم
الحل عند الشيخ "بوراك" نطعمه العسل
لنرى النتيجة؟!
صفّق الجميع مبتهجين بالفكرة.. قائلين:
الشيخ "بوراك" في أرذل العمر.. على
حافة القبر.. إذا مات مسموماً فقد استراح من تعب الدنيا وقد أنهكه الفقر وأعجزه
الدهر.. وبذلك نكون قد أنجزنا التجربة وعرفنا الحقيقة..
ولمّا حان موسم الشهد والعسل.. بحثوا عن الشيخ
"بوراك" حتى وجدوه وقد لجب الجنبان واحدودب الظهر..
وانطفأ نور البصر، "الفم راب والرأس شاب
والظهر عاب وتفرق الأحباب.."
قدم العسل المسموم إلى الشيخ المسكين.. ووقف
الجميع في انتظار الموت المحتوم.. فأقبلت الحياة.! حدث ما لم يخطر على بال بشر،
إنها المعجزة حقاً.!!
لقد استعاد الشيخ الأعمى بصره من جديد بعد أن
تجرع العسل.!!
لم يصدق الحاضرون المشهد وحتى الشيخ بدأ يتلمس
الحاضرين بين مصدق ومكذب! ثم بدأ يستعيد شبابه، فاسود شعره واستقام ظهره وتزين فمه
بالأسنان والأضراس وعاد ربيع العمر إلى جسمه كأنه يوم البعث..!!
ذهل الجميع.. وانبهر الشيخ لحاله ثم قال:
إن لله جنوداً من عسل.. هذا جزاء من يتوكل على
الله.. نعم لقد صدق من قال: اتق الله تر العجائب..
تأسف القرويون لسوء نيتهم.. وطلبوا منه الصفح
والسماح لكن الشيخ عاتبهم قائلاً:
-أيها الأوغاد.. أردتم قتلي؟!.. طأطأ الحاضرون
رؤوسهم وواصل الشيخ الشاب "بوراك" كلامه:
-إني أطالب بالدية المشروعة..
قال أحدهم في استحياء:
-أطلب ما شئت..
قال الشيخ "بوراك":
-ديّتي.. عائشة.. الزواج بعائشة زينة البنات..
فوافق والدها الذي كان حاضراً مع القوم.. تزوج
الشيخ ديته "العروس عائشة" وعاشا ردحاً من الزمن في غبطة وسرور وأنجب
أطفالاً أطلق عليهم أولاد عبدي..
ومع الأيام بدأ جمال "عائشة" يذبل
كلما تقدمت في العمر رغم محاولتها الحفاظ عليه بأنواع العقاقير ولكن الزمن لا
يرحم..
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟!
وكلّما مرت السنون ازداد الشيخ الشاب فتوة
وعنفوانا حتى صار كابن العشرين صحة وجمالاً.. فاختار فتاة شابة اسمها
"توبة" وتزوجها بعدما طلق "عائشة" البلهاء، تاركاً إياها مع
أبنائها أولاد عبدي في ناحية خصبة من ضفاف الوادي، وسكن مع زوجته الجديدة
"توبة" على ضفة النهر الأخرى المقابلة فأنجب معها أطفالاً أطلق عليهم
اسم "التوابة"..
وبدأ النهر الذي يفصل بين المرأتين وذرية الشيخ
يشهد في صمت ميلاد الفتنة… الصراع المرّ بين الإخوة
الأشقاء… الإخوة الأعداء.. أولاد عبدي والتوابة أبناء الأب الواحد.
العداوة والبغضاء ينموان على ضفتي النهر..
فيرضعهما الأطفال مع حليب المرأتين… ويشربهما الكبار جرعات
حقد من مجرى الواد الحزين.. ويتوارثهما أحفاد القبيلتين جيلاً بعد جيل.. ويلبس
الأوراس رداء الخطر... ثم يعلن ثورة الغضب بين أبناء الشيخ الشاب، بلغة قاسية
أدواتها كلها غيض وفيض، كرّ وفرّ، اعتداء فانتقام، حتى سكن الهلع قلوب الأهالي في
القرى والمداشر، وانعدم الأمن في ربوع الأوراس وحلّت محله أعراس الدم مع زغاريد
البارود في السفوح والوهاد، وسائر مرابع الشاوية.
لكن دوام الحال من المحال والأخوة لا تباع
بالمال كما يقال؟! ولأن الزمن طبيب فقد ضمد الجراح بهدوء حتى التأمت، جرى ماء
الوادي غسولاً طهوراً للقلوب السوداء فابيضّت، وأضاء العقل بحكمته والدين بنوره
بصيرة المتخاصمين… فتعانق الجميع وامتزجت
دموعهما فرحاً.. بالتسامح والمحبة بينهما وعندئذ صارت التوبة والعبادة عنواناً
لقبيلة أولاد عبدي والتوابة.
وجاءت أيام العسرة تباعاً فالتحمت القبيلتان في
صف واحد تحت راية الجهاد ضد الأعداء في مقاومة شهد لها القرن العشرين بالجلال، حتى
تحقق النصر المبين، ولبس الجميع أثواب المحبة والهناء بعد الخلاف والجفاء… وغنى الأطفال للشمس في أعراسها أغاني السلم والعصافير والعطر… ليمتد ربيع الأوراس طول
الدهر…