كيف تطور العقل البشري
ما الذي يمكن أن يعلل سبب قدرات عقلنا وذكائنا المميز عن باقي الكائنات الحية ؟
ما هي العوامل التي سمحت لكي يصبح الإنسان ذكياً بشكل يجعله مميز , ويفكر بالطريقة التي نحن نفكر بها الآن ؟
كيف حدث هذا الفارق الكبير بيننا وبين كافة الكائنات الحية مع أنه يوجدكائنات حية دماغها يملك قدرات تفوق قدرات دماغنا كالحيتان والفيلة .
ماهي أهم العوامل التي أدت لذلك ؟
يرى البعض أن أهم ما يميز تفكيرنا عن باقي الكائنات الحية وبالتالي ذكائناالمميز عنها هو : ما يكتسب نتيجة التواصل الاجتماعي الواسع والمنوعوالمعقد , والذي يتم نسخه و توارثة بالمحاكاة والتعلم . فهو أدى لنشوءتواصل إيمائي إشاري متطور , وبالتالي مهد لنشوء لغة محكية حدث تطور لها ,ومن ثم تشكلت اللغة المكتوبة . بالإضافة لنشوء التقنية وصنع الأدواتوتوارثها نتيجة الحياة الاجتماعية , وهي التي نتجت عن قدرات عمل عقلناويدينا والقامة المنتصبة وعوامل أخرى . إن دور التقنية واستعمال الأدواتالمتكرر وصنع الأدوات كالرمح والفأس وغيره , وتعليم ذلك للآخرين , ساعدنابشكل كبير في توسيع قدراتنا وبالتالي خياراتنا في التعامل مع ظروف الحياة. صحيح أن هناك الكثير من الكائنات الحية تستعمل التقنية مثل النحلوالعناكب والطيور وغيرها , ولكنها لا تطورها فهي تكتسبها بيولوجياً .وهناك الكثير من الكائنات الحية تستعمل التقنية أو بعض الأشياء كأدواتولكنها لا تحتفظ بها ولا تعيد صنعها . وكل هذا أحدث قفزة تطور كبيرة لقدراعمل دماغنا وبالتالي تفكيرنا , عن باقي الكائنات الحية , وخلال زمن قصيرنسبياً .
أن قدرات الذكاء الكائن الحي , بشكل عام , هي نتيجة برامج التفكير أومعالجة المدخلات للدماغ الموروثة بيولوجياً , وبرامج التفكير والمعالجةالمكتسبة أو التي يتم تعلمها نتيجة الحياة والحياة الاجتماعية .
فالقدرات الموروثة بيولوجياً هي : القدرة على التفكير ومعالجة الأفكاروالقدرة على التعلم , و سرعة الحفظ في الذاكرة وكميته , والقدرة علىالتذكرة أو الاستدعاء من مخازن الذاكرة واستخدام مخزون الذاكرة , والقدرةعلى المعالجة الفكرية لزمن طويل , والقدرة على معالجة الأفكار الكثيرة ,والقدرة على معالجة الأفكار المعقدة , وكل هذا يكون موروث بيولوجياً ,وهذه القدرات تكون عادة تابع لوزن الدماغ وعدد الخلايا العصبية وطريقةاتصالاتها وتناميها .
أما قدرات الذكاء التي تكتسب نتيجة الحياة والحياة الاجتماعية فهي : قوةبرامج التفكير المكتسبة التي تم تعلمها نتيجة الحياة , وكمية المعلوماتأوالمعارف الدقيقة المكتسبة , وهذا يكون عادة تابع لظروف الحياة , وبشكلخاص تأثيرات المجتمع بالنسبة لنا نحن البشر , فهذه التأثيرات هي أساس تميزتفكيرنا عن باقي الكائنات الحية .
أما حساب نسبة وزن الدماغ إلى وزن الجسم في تحديد قدرات الذكاء التيتستعمل غالباً , فهي غير دقيقة . إن وزن الدماغ الإنسان بشكل عام يتراوحبين 1300 غ و2000 غ ، ووسطياً وزن دماغ الأنثى أقل بحوالي 200 غ , فهوبذلك يكون (50/1) من حجم جسم الإنسان . ويقدر وزن دماغ الفيل بين 4000 –4500 غ , لذا يكون (500/1) من حجم الفيل . ويرى البعض أن الرجل ليس أذكىمن المرأة لأن وزن دماغة أكبر . و ليس الفيل أو الحوت أذكى من الإنسان ؛إذا اعتمد في تحديد الذكاء نسبة وزن الدماغ إلى وزن الجسم ككل . ولكن إذاما قورن دماغ الإنسان بدماغ طائر السنونو فإن وزن دماغ الإنسان يشكل نسبة2.5 % من وزن الجسم كله . أما وزن دماغ طائر السنونو فيشكل نسبة 4.2 % منوزن الجسم كله ) أي نسبة وزن الدماغ إلى وزن الجسم غير دقيقة.
والملاحظ أن الدماغ يتطور باستمرار نتيجة التعلم ، فالزوائد الشجرية تتفرعكلما اكتسبنا معلومات جديدة ، و زيادة تفرعها يزيد من الذكاء , و بالتاليقدرة أقوى على تذكر المعلومات ، فكلما زاد تشابك الخلايا العصبية في المخزادت نسبة تواصلها وتبادلها للمعلومات والعمليات المنطقية , وهذا يجعللوزن الدماغ وعدد خلاياه ومشابكه تأثير أساسي على كمية الذكاء .
إن البحث في تطور العقل البشري يبدأ عادة بالسؤال السهل والصعب في آن معاً وهو :
ما الذي تغير في الدماغ وسمح بالتغير في طريقة تفكيرنا وجعلنا بهذا الذكاء ؟
لقد رأى عالم النفس الكندي ميرلين دونالد أن ذلك مرتبط بطريقة تمثيل عقلناللواقع , ووجود علاقات اجتماعية متطورة ومعقدة سمحت بتعليم ما يتم اكتسابهمن معارف للأبناء وباقي أفراد الجماعة . وهو يرى أن تطور العقل له علاقةجوهرية بالطرق التي يمثل بها تجاربه و كل ما يصادفه من أشياء وحوادث .فهذا يسمح للعقل إدارة أفضل للمعلومات المخزنة فيه عن التجارب التي يعيشها. ونتيجة ذلك استطاع عقلنا تشكيل المفاهيم التي تدل على الأشياء والحوادث, وعن طريق تداول هذه المفاهيم بين الجماعة صار بالإمكان تحقيق تواصل أكثرفاعلية ووضوح , وهذا سهل نقل الخبرات المكتسبة إلى الآخرين . وكذلك سمحباسترجاع الذكريات المخزنة بسهولة ودقة أكثر , ونقلها للآخرين . وقد حدثتقفزة كبيرة نتيجة الانتقال من التخاطب الإيمائي الإشاري إلى التخاطبالصوتي اللغوي المتطور . فقد كان نقل التجارب والمعلومات للآخرين وتعليمهممعقد وصعب باستعمال الإيماءات والإشارات , فباسخدام التمثيل المتطور نتيجةاللغة المحدية أصبح انتشار الثقافة أسهل وأسرع .
إن النموذج الذي قدمه دونالد بارتكازه على علم الأثار وعلم النفس الحديثينيمكن أن يلخص لنا قفزات عديد حصلت في كيفية إدارة المعلومات المخزنة فيالدماغ , حيث كانت كل قفزة تعطي مستوى جديدة من المعرفة وحالة جديدة منالإدراك والوعي .
ويرى دونالد أن أول قفزة معرفية حدثت منذ ما يقارب مليوني سنة مع أول ظهورللبشر البدائيين من فئة الإنسان العاقل حيث تشير أدواتهم الحجريةالمتناسقة إلى وجود عقل جديد يمتلك القدرة على التمثيل " الإرادي " , وكانيقوم بتمثيل وتعليم زريته ورفاقه طريقة صنع تلك الأدوات . فبذلك أصبحبمقدورالعقل القدرة على انتقاء تجربة من الماضي وإعادة تقديمها للآخرين .فقد كان يتطلب إيصال الذكريات المسترجعة بشكل " إرادي " القدرة علىالتمثيل ,الذي يمكّن من إيصال المعلومات التي تسمح بتعلم ونسخ ما تم صنعهسابقاً . وكان ذلك في أول الأمر يعتمد على التواصل عن طريق الإيماءاتوالأصوات التي ترمز نقل التنبيهات والتوجيهات و من ثم الأفكار للآخرين .فكان يرسل الشخص المعلومات بواسطة الإيماءات الجسدية والأصوات التي سبقتظهور اللغة , ثم دمجت مع بعضها لتمثيل سلسلة من الأحداث المترابطة , ومنثم مثلت على شكل مسرحيات بسيطة تعتمد الإيقاع والرقص .
أن تطور وارتقاء إدارة الدماغ للمعلومات المخزنة فيه والتجارب التي يعيشها, كانت منذ حولي مليوني سنة , فقد بدأ باستخدام الأدوات البسطة . لقد كانالإنسان حينها يملك قدرات جسمية متواضعة نسبياً , مع وجود بيئة وأوضاعوحوادث متنوعة كثيرة ومعقدة و خيارات كثيرة ووجود الكثير من التهديداتوالأعداء . فكان بحاجة الماسة للتكيف مع الظروف والبقاء , وهذا أدى لتطورالقدرات بشكل سريع , لأنه دفع الدماغ لبناء أو تشكيل برامج فكرية متطورةومعقدة تسمح بالتعامل مع تلك الأوضاع , وبالتالي دفع الدماغ وبالذاتاللحاء للتطور والنمو السريع خلال زمن قصير نسبياً . كل هذا أدى إلى توصلالدماغ لقدرات تمثيل وترميز الواقع بأفكار مناسبة . وهذا كان أهم عواملحدوث القفزة التي ميزتنا عن باقي الكائنات الحية , وهي القدرة على التخاطبالفعال بواسطة الأيماءات والإشارات , والأهم تمثيل الواقع بلغة محكية ثممكتوبة متطورة .
فمنذ حوالي 300 ألف سنة بدأت اللغة بالتكوّن باختراع الكلمات , وتطورتلتصبح كما هي عليه الآن , خلال 150 ألف سنة . كانت أهمية اختراع الكلماتفي التواصل تتمثل في ابتكار أصوات محددة معينة أوضح وأدق من الإيماءات يتمتعليمها للصغار بسهولة . لقد سهلت اللغة عملية نقل الأفكار المتزايدةالتعقيد .
والأهمية الكبرى لللغة والتي كانت العامل الأساسي في تطور الذكاء البشريبشكل جعل تفكيره ومعالجة المعلومات المدخلة لدماغه مختلفة ومميز عن باقيالكائنات الحية حتى التي دماغها أكبر بكثير من دماغه , هي أنها سمحت لكافةمركز الاستقبال الحسية أكانت سمعية أم بصرية أم شمية . . الخ تستطيعالترابط مع بعضها بواسطة اللغة , التي استطاعت تمثيل الكثير من تأثيراتالمدخلات الحسية برموز صوتية لغوية , وذلك عن طريق مناطق الارتباط الغويةفي الدماغ , وهذه المناطق التي تشكلت واتسعت بشكل كبير هي الأساس الذي حققلنا الذكاء المتميز عن كافة الكائنات الحية . فنحن الوحيدين من بينالكائنات الحية الذين نستطيع تمثيل غالبية الأحاسيس بواسطة رموز لغويةفكرية وهي الكلمات .
لقد تطورت كثيراً طرق وأساليب الترميز والتمثيل لدينا نتيجة نشوء اللغةالمحكية , فبواسطة اللغة التي هي ترميز ثاني للرموز الحسية الخام (البصرية والصوتية وغيرها ) تم تمثيل أو ترميز واردات الحواس المختلفة بلغةأو رموز واحدة . فبواسطة اللغة المحكية ( أي الصوتية ) أو المقروءة , تمترميز الكثير من واردات الحواس المختلفة , وأيضا تم تمثيل أحاسيسناوعواطفنا وأفكارنا بتلك اللغة . وكان يحدث تدقيق وتصحيح لتلك التمثيلات أوالتشبيهات أو النماذج التي يبنيها دماغنا كي يكون التمثيل أدق وأكثرمطابقة للواقع . فاختراع الكلمات وسع حدود العقل والوعي . ولم يبدأالتواصل بين مناطق الذكاء هذا إلا منذ حولي 150 ألف سنة , وأخذت المعلوماتعن مختلف جوانب الحياة تمثل بكلمات يتم التواصل بها بين الأدمغة . وتطورتطريقة ربط الأفكار وهذا أدى لنمو الذكاء البشري بشكل كبير وسريع وغيرمسبوق . فبواسطة اللغة المحكية بدأت القصص والروايات ومن ثم الأساطيربالتشكل والتداول بين أفراد الجماعة , وهذا سمح مع أمور أخرى بنشوء وتكوّنالثقافة الخاصة بكل جماعة , والتي صار يتم توارثها وتناميها نتيجة الحياةوالتواصل الاجتماعي عن طريق هذه اللغة المحكية , وفي هذه المرحلة تم حدوثالقفزة الكبيرة للتفكير والذكاء البشري التي ميزته عن باقي الكائنات الحية.
كانت اللغة المحكية تستلزم التواصل المباشر بين البشر ليتم تناقل وتوصيلالمعارف والأفكار , لذلك عندما تشكلت اللغة المكتوبة , وهذا كان منذ وقتقريب حوالي 6500 سنة وهي بداية التاريخ المكتوب , تمت قفزة أخرى سمحتبتناقل المعلومات والأفكار دون التواصل المباشر , وبالتالي تركمها نتيجةتوضعها أو تخزينها خارج الدماغ برموز وإشارات مادية تحفظها لفترات طويلة ,وبذلك نشأ التاريخ نتيجة التواصل بين البشر الذي حدث نتيجة اللغة المكتوبةالتي سمحت بانتقال الأفكار والمعلومات خلال الأجيال المتعاقبة .
وفي رأيي إن أهمية اللغة ليس فقط أنها سهلت التواصل وسمحت بتمثيل وترميزغالبة الأشياء والأفعال , بل هناك أمر هام آخر وهو أنها جعلتنا نفكرونعالج الأفكار بشكل إرادي تسلسلي وواعي سببي ومنطقي . فبناء اللغةواستعمالها يعتمد التفكير السببي المنطقي التسلسلي . فهناك الإسم والفعلوالصفات والحالات . . الخ لتمثيل وترميز الأشياء ومجريات الأمور, وكذلكيستخدم الفعل والفاعل والمفعول لتمثيل السببي والمنطقي لتسسل الحوادثوتطوها والتنبؤ لها , وهذا من أهم ما ميز طريقة تفكيرنا عن باقي الكائناتالحية .
كيف نشأت وتطورة لدينا اللغة المحكية من الأشارت والإيماءات إلى لغة محكيةثم مكتوبة ؟ في البدء بالتنبيه والأشارة وإعطاء الأوامر , ثم الدلالةللأسماء والأفعال , ثم التصنيف الذي اعتمد التعميم نتيجة التشابه في بعضالخصائص , مثال الطعام هو كل ماهو صالح للأكل . ثم كما ذكرنا ذكر الحوادثوالقصص والروايات .
وكما ذكرنا إن أهم ما يميز دماغنا عن باقي أدمغة اكائنات الحية الأخرىجميعها هو المناطق المسؤولة عن اللغة الموجودة بين مراكز الأحاسيس فياللحاء , فلبعض الكائنات الحية مثل الفيلة والحيتان لحاء ومتطور ولكن لمتتشكل وتنمو مناطق اللغة التي تربط مراكز الإحاسيس مع بعضها كما هي مودودةلدينا . فنحن نستطيع تمثل الكثير من أحاسيسنا وأفكارنا بكلمات تدل عليهاوننقلها بواسطة الكلمات المحكية للأخرين .
وكان لنشوء الثقافة والحضارة نتيجة التوارث الاجتماعي للأفكار والمعلوماتوالتصرفات والتقنية بكافة أشكالها , الدور الأساسي والأهم الذي جعلتفكيرنا مختلف ومميز عن باقي الكائنات الحية . فنحن البشر دماغنا لديهخصائص موروثة بيولوجياً , بالإضافة إلى أنه يكتسب موروث اجتماعي فكريثقافي تقني , وهذا ما ميزنا عن كافة الكائنات الحية .
ويمكن أن يظهرة مقدار وأهمية الموروث الفكري الاجتماعي إذا جعلنا مولودبشري يعيش بطريقة تعزله عن كافة التأثيرات الاجتماعي , وتوفير مستلزماتالحياة والبقاء له ( لأنه يستحيل عيشه دون مساعدة كأن ترعاه حيوانات أخرىويعيش في مجتمعها ) وجعله يعتمد على الموروث البيولوجي فقط , ودون الموروثالاجتماعي البشري , في تعامله مع ظروف الحياة . عندها نلاحظ الخصائص فكريةوتقنية التي سوف يخسرها , إنه قبل كل شيء سوف يخسر اللغة وبذلك يخسر كل ماتمنحة اللغة من ميزات فكرية عن باقي الكائنات الحية , وهذا سوف يجعله شبيهبباقي الكائنات الحية المتطورة ولن يتفوق عليها إلى قليلاُ هذا إذا تفوق .
نشوء الكائنات الفكرية لدينا
إن الأفكار هي بمثابة كائنات الفكرية وهي بنيات غير مادية , وهي تكون عالمالفكر. ومثلما نشأت الكائنات الحية من العناصر والمركبات الكيميائية بعدأن تفاعلت حسب القوى والآليات الموجودة , كذلك نشأت الكائنات الفكرية فيالأجهزة العصبية لدى الكائنات الحية . وكان نشوؤها متسلسل ومتطور , إلى أنوصلت إلى ما هي عليه لدينا في الوقت الحاضر .
فالأفكار أو الكائنات الفكرية تتكون في أول الأمر - أوفي شكلها الخام - فيالجهاز العصبي من السيالات العصبية الكهربائية الواردة من المستقبلاتالحسية . فالمتقبلات الحسية بكافة أشكالها تحول - أو ترمز - بعض أنواعالتأثيرات الفيزيائية - ضوئية , صوتية , حرارية , ميكانيكية , كيميائية ,إلى نبضات عصبية كهربائية على شكل سيالات كهربائية عصبية , ترسل إلىالدماغ الذي يقوم بتقييمها وتصنيفها بناءً على نتائج تأثيراتها على الجسم, إن كانت مفيدة أو ضارة أو محايدة , ثم يقوم بالاستجابة بناءً على ذلك .لقد كانت وسيلة إعلامية , وكذلك وسيلة تنفيذية تقوم بالاستجابات أن كانتاستجابات كيميائية فزيولوجية , أو حركية , وتطورت ليصبح جزء منها حسي واعي.
ولدى الإنسان الذي يعيش في مجتمع تطورت هذه البنيات الفكرية العصبية ,فترابطت سلاسل لتشكل بنية فكرية متطورة . وقد حدثت قفزة كبيرة عندما مثلتبعض البنيات الفكرية بإشارات - أصوات وتعبيرات وحركات ومن ثم كلمات تدلعليها , وهذا أدى لنشوء البنيات الفكرية اللغوية . فهذه الدلالات - أوالبنيات اللغوية الفيزيائية - عادت ودخلت إلى الدماغ كمدخلات حسية , وتحولت من جديد لبنيات فكرية خام وأصبحت بنيات فكرية دلالية أو لغوية , فهيترمز أفكار تم إرسالها من إنسان لأخر . وبذلك نشأت وسيلة تستطيع بها هذهالبنيات الفكرية الخروج من الدماغ أو العقل الذي نشأت فيه الانتقال إلىدماغ أو عقل آخر , وهذا يتم بعد أن تتحول البنيات الفكرية اللغوية إلىبنيات فيزيائية لغوية دلالية - مؤثرات فيزيائية إشارات وأصوات وحركاتوإيماءات - فإذا تلقتها حواس إنسان آخر يمكن أن تصل إلى دماغه وتتحول إلىبنيات فكرية لغوية ثم إلى بنيات فكرية , هذا إذا تم فك رموزها . و بهذاستطاعت البنيات الفكرية أن تنتقل من دماغ إنسان إلى أخر , وتصبح مهيأةلكي تتوضع فيه . أي يمكن أن تتحول البنيات الفيزيائية الدلالية أو اللغوية, إلى بنيات فكرية عصبية .
كيف أصبحنا نتمثل أو نتصور الوجود مقارنة بباقي الكائنات الحية
إن نتيجة الحياة الاجتماعية والنشوء الثقافة والحضارة صار تعرفنا علىالوجود ليس فقط عن طريق الحواس , فالثقافة أصبح دورها يضاهي دور الحواس فيتعرفنا على الوجود . فالترميز اللغوي للأفكار والتواصل بين العقول ونشوءالمعارف أو الثقافة وتناميها هو من يحدد الآن نموذج الوجود لدى كل منا .فعندما شكّل عقل الإنسان الأفكار أو البنيات الفكرية , التي استطاعت أنتمثل البنيات الواقعية وتمثل تفاعلاتها مع بعضها , تكون زمن فكري يمثّّلالحوادث و صيرورة الوقائع . فهو ( عقل الإنسان ) يستطيع أن يعرف أي يتنبأبالأحداث , أو نتائج تفاعلات بين بنيات , حدثت في الماضي أو سوف تحدث فيالمستقبل . وكذلك يستطيع أن يتنبأ بحوادث أو تفاعلات لم يتأثر إلا بجزءقليل منها , فهو يكمل ما ينقصه ويضع سيناريو للكثير من تلك الحوادث .واستطاع دماغنا تشكيل نموذج مختصر وبسيط للوجود وصيرورته , بواسطة البنياتالفكرية التي شكلها , تمكّنه من تحريك أو مفاعلة النموذج الذي شكله للوجود, إلى الأمام إلى المستقبل وهذا هو التركيب , أو إلى الخلف إلى الماضي وهوالتحليل . وذلك بسرعة أكبر من سرعة تغيرات الواقع الفعلية . فالدماغبواسطة معالجة ما يرده من المستقبلات الحسية ( أي التفكير ) يستطيع السيربتفاعلاته الفكرية بسرعة أكبر من السرعة التي تجري فيها في الواقع , أيإلى المستقبل . وكذلك يستطيع السير إلى الماضي عن طريق عكسه التفاعلات أوالتحليل , ووضعه لسيناريو لما يمكن أن يكون حدث أو ما سوف يحدث , وتزداددقة تنبؤاته باستمرار لتقترب من الواقع الفعلي .
المعالجة التسلسلية والمعالجة التفرعية أو المتوازية للأفكار .
نحن فقد من بين كافة الكائنات الحية نعتمد التفكير الإرادي ومعالجةالأفكار بطريقة تسلسلية نتيجة التفكير بوجود اللغة , وذلك بالإضافةللطريقة التفرعية التي تفكر بها غالبية الكائنات الحية . والذي يقومبعملية المعالجة المتوازية للمدخلات الحسية هو الدماغ القديم الزواحفيوالدماغ الحوفي , وكان يقوما بذلك قبل نشوء الدماغ الحديث بما فيه اللحاء. لقد كان الدماغ الزواحفي يقوم بمعالجة مجموعة مدخلات في نفس الوقت أيبالتوازي, وليس واحد بعد الآخر, فقد كان لهذا الدماغ القدرة على معالجةكافة المدخلات في نفس الوقت .
فالدماغ في أول نشأته كانت مهمته معالجة كافة المدخلات الحسية في نفسالوقت أي بالتوازي , والمثير الأقوى والأهم هو الذي يقرر الاستجابة , وذلكبعد مقارنة كافة المثيرات الداخلة للمعالجة مع بعضها في نفس الوقت . ثمبعد ذلك صارت بعض المدخلات تأخذ أهمية ليس لقوتها أو تأثيرها الحاضر ولكنلتأثيرها المستقبلي الهام , وهذا حدث نتيجة تشكل آليات الإشراط أو ترابطالمثيرات مع بعضها نتيجة التجاور المكاني أو الزماني أو معانيها .
أن أهمّ خاصية للمعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا والتي تميزنا عنباقي الكائنات الحية , والتي تشكلت نتيجة استعمالنا للغة محكية وتعتمدالسببية والمنطق , هي التركيزه على سلسلة مسار حوادث واحد للتفكير فيهومعالجته من ضمن المدخلات الكثير , ومن المفيد تجنب تشتيت الانتباه عندملاحظة المثيرات الجديدة , والتركيز على تحديد الهام منها لمعالجته هو فقطوالتغاضي عن البقية , والاستمرار في ذلك المسار حتى نصل إلى نتيجة أو يحدثمثير جديد وهام يستدعي قطع المعالجة الجارية والالتفات لمعالجة هذا الجديد. فالتفكير السببي والمنطقي والرياضي يعتمدوا المعالجة بالتسلسل , لذلك هممقيدين ومحدودين بسلسلة واحدة من الأفكار .
إن غالبية تصرفاتنا تجري بناء على أوامر وتوجيهات الدماغ القديم .وتصرفاتنا الإرادية الواعية والمعتمدة على التفكير اللغوي والسببيوالمنطقي تكون بمشاركة الدماغ الحديث بما فيه اللحاء . وفي الأساس معالجةالدماغ للواردات الحسية البصرية تجري بالتوازي أو بالتفرع وفي نقس الوقتفي عدة مناطق من الدماغ , وكذلك معلجة الواردات الحسية الصوتية تعالجبالتفرع , وكافة الواردات الحسية تعالج كلها في نفس الوقت .
إن المعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا التي تكون معالجة بالتسلسلة, وفي نفس الوقت تجري معالجة بالتوازي في الدماغ الزواحفي والدماغ الحوفيوتكون غير واعية , ويتم إرسال نتائج هذه المعالجة إلى سبورة الوعي ,فالدماغ الحوفي ينظم دخول المثيرات والأفكار بعد أن يعالجها بالتوازي إلىسبورة الوعي , فتشارك في تحديد الاستجابة .
والشيء المهم أن المقارنة اللازمة لإجراء القياس والحكم يلزمها معالجةبالتوازي , فلكي تتم مقارنة مجموعة مدخلات أو مؤثرات أو أفكار مع بعضهاالبعض يجب إدخالها معاً لمعالجتها دفعة واحدة , لذلك نجد الدماغنا يستخدمالمعالجة التسلسلية والمعالجة المتوازية في نفس الوقت .
إن الواقع هو ناتج تفاعل كمية شبه لا متناهية من العناصر وتفاعل بآلياتمتعددة الأسباب . وهنا يكمن ( ضعف أو قوة ) التفكير الإرادي الواعي الذييعتمد تسلسل الأفكار مقارنة بالتفكير الحدسي الذي يعتمد التفكير المتوازيللأفكار في نفس الوقت , لأنه يعتمد سلسلة واحدة من الأفكار . ومن أهمميزات التفكير التسلسلي دقته العالية ووضوحه ( لأنه واع ) أكثر من التفكيرالمتوازي الحدسي .
ونحن نجد المخيخ مثال على التفكير الامتوازي , فهو أقدر بنية دماغية علىالمعالجة المتوازية , فهو يستطيع معالجة الكثير من أعقد الأوضاع الحركيةدفعة واحدة اي في نفس الوقت مثل المشي مع المحافظة على التوازن أو ركوبدراجة . . , وتتم هذه المعالجة غالباً دون تدخل الوعي , وعندما يتدخلالوعي تنخفض قدرات المخيخ ويصبح المخيخ يعالج مسار واحد من حركات الجسموعندها يصعب تنفيذ الحركات المتزامنة في نفس الوقت ويختل نظام أداء العمل .
المعالجة الفكرية التسلسلية تعتمد التسلسل زمني . قصص و روايات و سير ,والتسلسل سببي أيس الأسباب والنتائج والترابطات السببية أو المنطقية ,الرياضيات والهندسة , الفرض – الطلب - البرهان كمثال . وعمل دماغنا يعتمدعلى المشاركة بين التفكير التسلسلي والتفكير التفرعي أو المتوازي وهو يظهرعلى شكل حدس وإلهام , لإدارة وتنظيم كافة أمور حياتنا . وهناك اختلافاتبيننا من ناحية اعتمادنا عل التفكير التسلسلي أو التفكير التفرعي , فبعضنايركز على التفكير التسلسلي , وعادة يكون متفوق بالرياضيات والمنطق ,والبعض الآخر يركز على التفكير التفرعي وعادة يكون متفوق بالشعر والأدبوالموسيقى والرسم ومخيلة خصبة .