ضحايا الشاشة قصيدة حب غشاشة

جلس أمام حاسوبه وتوغل في دهاليز الماسنجر . . التقى بفتاة . . رغب أن يعرف لأي مدى " يتواصل معها " . . سألها عن اسمها فرفضت البوح به . . وفضلت اسما مستعارا . . وأظنها فضّلت عمراً غير عمرها الحقيقي . . فحذى حذوها وأصبح أصغر من عمره بكثير . . وما رأى نفسه إلا أصبح إنسانا آخر . . بمواصفات وصفات كلها حميدة ومحمودة.

فهو هادئ الطباع . . دمث الخُلُق . . عذب اللسان . . فيّاض بالمشاعر . . ظلمته الدنيا وعاندته الظروف . . ليس وحده هكذا . . بل ولعجائب الصدف كانت الفتاة كذلك . . فإنها نسخة منه . . النصف الذي تبحث عنه . . وبعد أقل من الساعة بدت كأنها تعرفه منذ أمد بعيد . . معرفة قوية بتفاصيلها . . متكاملة بصورتها . . أصدقكم القول بأن أكثر ما قاله لها كان أبعد عن الحقيقة بمكان .

إن الذي يجلس أمام حاسوبه في طرف غير معروف من الدنيا ويتواصل معك . . فهو مثلك يعيش في عالم من الخيال . . وإن هذه العلاقة التي تُبنى على أسس غير محسوسة منافية للمنطق السليم والصواب . . فإنك تكتشف في النهاية مدى كبر ( الكذبة الجميلة ) التي تعيشها . . فأنك قد تكتشف أو تكتشفين بأن من تواصل معك متزوج وربما لديه عدة أولاد وأحفاد . . والصدمة قد تقع عندما تعلم بأن من تواصلت معه من غير الجنس الذي تود عقد وإقامة علاقة معه . . كأن يكون رجلا مثلا.

أو قد تجده إنسانا ليس به شيء من المصداقية . . وكل مبتغاه العبث بمشاعر الطرف الآخر . . أو تمضية وقت لا عمل له فيه . . وأغلب ما صبغه على شخصيته ليس حقيقيا . . كمستوى تحصيله العلمي أو شخصيته وملامحها الوردية . . هذا غير التغني بالوسامة . . وأنه ليس له مثيل من وراء الجهاز . . وهو في حقيقة الأمر متصعلك لا يعرف معنى الحب . . ولا إلى أي فصيل ينتمي . . بل إن بعضهم يتغنى بالكرم والشهامة وفي الحقيقة تجده مدمن مخدرات . . أو مستهتر لا يريد إلا إشباع الرغبات . . وإرضاء نفسه بإظهار إمكانياته والقدرات.

إذا كان من الصعب على إنسان هذا الزمان أن يثق بقريب يعرفه . . أو صديق يراه بعينه . . فكيف من الممكن أن يثق بغريب لا يعرفه ! . . تعرّف عليه الكترونيا باسم مستعار . . من خلال أحاسيس مزيّفة وكلام معسول . . ومعلومات على الأغلب أكثرها كذب ومداهنة ومراوغة . . إن مثل تلك العلاقات قائمة على شاشة الكمبيوتر فقط . . وليس من الممكن أو الصواب والمنطق أن يكون لها وجود في قلوبنا . . وأثر على نفوسنا أو تغيير بعض أنماط حياتنا.

لو أعطينا أنفسنا لحظة تفكير صافٍ . . ونظرة متفحصة مدققة ثاقبة . . ذات أفق واسع إلى ما بعد الحب . . إلى ما بعد المشاعر . . وإلى أبعد من شاشة الحاسوب . . فإنك تعقل العواقب بنظرة مراقب . . ورأيت بأنه حب خاوٍ خالٍ من أي إحساس صادق مخلص أمين . . ومشاعر تتدفق وتفيض لهنيهات قليلة . . كما وابل المطر في المناطق الصحراوية . . ينهمر غزيرا ويسبب فيضانا . . سرعان ما يختفي وتبقى آثار الجرف والهدم . . والذي يخلّف علينا الحرقة وخيبة الأمل ووجع الرأس وسهر الليالي.

وإذا كان هذا أمر به الهلاك والتعب والنَصَب . . فليس من العقل بشيء ولا من الحكمة والفطنة بمكان . . أن ألقي بنفسي إليه مع العلم بأن الضحايا كثيرون . . إذاً فمن الصواب والواجب . . والعقل والعدل والحق والصدق أن أتّعض من أخطاء الغير فإنها حكمة كبيرة . . ووصية صادقة .

إذا . . لماذا يلجأ البعض إلى تبادل العواطف والمشاعر وكشف الأحاسيس لمن لا يعرفونهم ؟

يقومون بهذا . . ربما لفشلهم بإقامة علاقات في عالم الواقع بسبب خلفيات متعددة . . أو أنه عدم توفر المناخ الاجتماعي الطبيعي . . أو هو من باب الفضول لاستكشاف العالم الجديد . . أو للإثبات لنفسه القدرة على أن يكون ( دون جوان العصر) ( 1 ) . . ويبقى الحب عبر الإنترنت ناقصا مفتقدا لأهم جوانبه وهو التحقق من عالم الواقع . . فإن الحب مرهون بالصدق بالمعاملة ومحصور بصدق المشاعر . . بالرغم من جمال الخيال والبكاء على الأطلال . . إلا أن كل ذلك لا قيمة له في عالم الواقع والحقيقة .

بقي لنا أن نعرف ما هو الواجب بقدر ما نعرف ما هو المحظور . . فنتعامل مع الأمور بما تستحق حسب أهميتها . . وعلينا أن نعرف أن الإنترنت إنما هو وسيلة للمعرفة والاستفادة من كل جديد . . ليس وسيلة هدم وتخريب لكل ما هو جيد ومفيد . . وأن نعرف أنّ شبكة الإنترنت سلاح ذو حدّين: إما وسيط نجاح وصلاح . . وإما وسيلة للتهلكة والدمار . . إنما يقرر ذلك من كان له تفكير واقعي سليم . . ونظر ثاقب قويم . . وقلب لبيب حكيم . . قال تعالى: ( إن في ذلك لعبرةً لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد ) ق: 37.

وصلي اللهم وسلم على حبيبي وقرة عيني محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم يا رب تسليماً كثيراً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( 1 ): يرتبط دون جوان في أذهان الجميع . . أنه بطل المغامرات العاطفية الذي يستهوي النساء . . بتأثيره الغامض والساحر . . كما وصفته الروايات والقصص التي تحدثت عنه . . يبحث عن المتعة الجسدية بكافة الطرق . . ولا يهمه إن أحب المرأة أم لا . . ولا يهتم بمشاعرها وعواطفها . . بل يلقي بها بعد أن ينهل منها نشوته تحت تأثير كلامه المعسول وشخصيته الجذابة . . ولا يختلف أسلوبه هذا عن الاغتصاب . . لكنه بدلا من أن يستعمل العنف يلجأ إلى العبث بالمشاعر والأحاسيس . . التي سرعان ما تكتشف المرأة أنه وهم . . ولكن بعد أن يحصل منها على ما يريد . . ويتركها نادمة آسفة على حبها الوهمي الكاذب.