الدخولُ إلى باحة القصر مغامرةٌ لا بد أن تنتهي بصاحبها إلى زيارة للعالم الآخر، فإذا كان الزائرُ المتسللُ حِماراً فإن فرصةَ وجوده قريبا من أحد الشوارع المؤدية للقصر ضئيلةٌ للغاية.
لذا قرر حمارٌ أن ينتظر الزعيمَ في بيته، وتسلل بالفعل دون أن يشتبه به أيّ من رجال الأمن، ودخل غرفةَ مكتب القائد، وانتظر عودتَه الميمونة.
قُبَيل الحادية عشرة مساء، وبعد العشاء ومشاهدة نشرة الأخبار المتلفزة، دخل الزعيمُ إلى غرفة مكتبه وبيده مجموعة من الصحف والتقارير والأوراق الأخرى.
كانت المفاجأةُ كبيرةً، وقبل أن يرتفع صوتُ الزعيم مطالِباً الحرسَ الخاصَ باخراج هذا الحيوان من مكتبه، نظر إليه الحمارُ نظرةً مُذِلة وقال في مَسْكَنَة اعتاد الزعيمُ أن يراها في عيون المحيطين به:
سيدي، هل لك أن تستمع إلي قبل أن يطردني حرسك الخاص، فلديّ عرضٌ مثير للاهتمام يستفيد منه كلّ مِنّا حسب موقعه؟
وبدأ الهدوء يعود للزعيم، ثم جلس على مقعد مريح بعدما أغلق بابَ المكتب جيدا.
الزعيم: تكلم فليس لديّ وقتٌ، وقُلّ ما عندك رغم ثقتي بأن حمارا مثلك لا يمكن أن يكون لديه عرضٌ يُغريني بقبوله.
الحمار:أريد أن أعمل لديك مستشارا خاصا يفوق في كفاءاته وقدراته كلَ مستشاريك ومديري مكتبك السابقين والحاليين.
الزعيم: حمار وغبي وأيضا متخلف! كيف استبدل رجالي الذي صنعتهم من قاع العبودية، والذين لا يساوى الواحد منهم ورقة صغيرة تخرج من مكتبي فيجلس بعدها على مقهي أصحاب المعاشات يجتر ذكريات رضائي عنه؟
إن لدي رجالا في كل مكان من القصر إلى رئاسة تحرير أهم الصحف الرسمية، ومن الرجل الثاني إلى معظم وزرائي، وأنا أراهم أكثر منك طاعة، وأشدَّ قدرة على تحمل اهاناتي لهم، ويبتهجون بالمذلة، وتتقوص ظهورهم وهم يسيرون خلفي طالبين الرضا ونصفَ ابتسامة وإيماءةً مني ولو كانت احتقارا.
الحمار: لكنهم، سيدي الزعيم، سينضمون لأول حركة ناجحة تطيح بك، وسيبيعونك لمن يدفع أكثر، وسيبصقون على يديك إن طلب منهم الزعيمُ الجديدُ ذلك. أما أنا فلن أفعل أكثر من الطاعة للكرباج، والصمت على الآلام، والسكوت على خواء البطن ولو مت جوعا.
الزعيم: أنا لا أنكر أن فيك صفات تنطبق تماما على المواصفات المطلوبة لمن يخدمني، لكن المستشارين في القصر أصبحوا مركز قوة، بل إنني أكاد لا أعرف أحيانا ما يدور إلا من خلالهم، وأنا سعيد بهذا فهم يتذللون ويقومون بحمايتي، وأنا أستبد بهم وأتولى حمايتهم. إنها معادلة الطاغية والمستبد والديكتاتور والسيد على مدى التاريخ.
وهنا بدت نظرات الحزن والأسى في عيني الحمار، ولأول مرة يرق قلبُ الزعيم لمن يستجديه ولو صامتا.
الزعيم: هل تقبل أن تكون وزيرا للزراعة والري والثروة المائية؟
الحمار: معذرة سيدي الكريم فأنا لا أستطيع أن أنافس رجلك في الوزارة، فهو ظلك في الحكومة، وهو لسانك الذي تبطش به، وهو القادر على أن يحدد لرعيتك الأكل والشرب والسموم، وقد أبقيته بجانبك لأنه أكثر مني طاعة وتحملا.
الزعيم: ما رأيك في رئاسة مجلس إدارة شركة الطيران الوطنية، فهناك سرقة ونهب وأيضا عمولات على شراء طائرات، وحسابات مفتوحة، وأماكن مجهولة لا يعرفها ديوان المحاسبة؟
الحمار: صحيح أن منصبا كهذا لم تشترط سيادتك أي كفاءات على صاحبه، بل لو تطابقت صفاته مع صفاتي فإن رجالك وأقاربك ومعاونيك ومستشاريك يستطيعون أن ينالوا من كعكة شركة الطيران الوطنية، فهناك ميزانية بمئات الملايين، وعمولة واحدة تكفي المرء أن يعيش ما بقي له من عمر على حرير وثير، لكنني كحمار أرى أن منصبا أرفع من هذا يليق بي. أريد أن أكون أقرب إلى الرجل الثاني في الدولة، بل لا أخفي عليك، سيدي الزعيم، أنني أطمع في منصب أعلى من الرجل الثاني.
الزعيم: لكنك لن تستطيع أن تكون زعيما عربيا حتى لو قامت أجهزة الاستخبارات الأمريكية بوضعك عنوة في القصر.
الحمار: لكن هذا الاجحاف والظلم البَيّنَ والتمييزَ ليس أكثر من جهل بطبيعة الفروقات والتجانسات بيني وبين صاحب أعلى منصب في الدولة.
فالزعيم العربي بوجه عام ( إلا قلة نادرة ) لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم. وهو أقل ذكاء من معظم المحيطين به، ومايقوم به في شهر أقوم أنا به في أقل من يوم.
والزعيم العربي لا يحتاج للتفكير، فهناك من يفكرون له، ولا يكتب خطبته، وإذا صادف وأجرى حديثا تلفزيونيا فإن المونتاج قادر على تحويل خربشات الهُراء إلى عبقرية، والفراغ الفكري إلى تأمل، والسخافات إلى مزاح من القائد المتواضع.
الزعيم: ولكنك لا تستطيع أن تكون فيلسوفا، وروائيا، وقائدا مهيبا، وعسكريا فذا، فأنا أتحدث في كل شيء، ويمكنني الخوض في أمور أجهل فيها أصغر معلوماتها، لكنها تتحول بقدرة قادر إلى ثورة فكرية لا يماثلها فكر آخر على وجه الأرض.
الحمار: هل تعني، سيدي الزعيم، بأنني لو توليت الحكم واجتمعت بكبار المثقفين والاعلاميين ورجال المال والاعمال والأمن فلن يمتدحوا في عبقريتي؟
الزعيم: أنا لم أقل هذا الكلام، فأنت تستطيع أن تخوض الانتخابات كما أنت، بصفتك حمار، وستجد جماهير تندفع رافعة صورتك، وستندهش من الافتتاحية الرائعة في الصحيفة الرسمية وهي بقلم رئيس التحرير نفسه بأننا انتظرنا طويلا حاكما عادلا وقائدا محنكا كحمارنا، ونحن ينبغي أن نتمسك به من أجل مستقبل أولادنا واستقلال وطننا.
الحمار: لماذا لا تجعلني أمينا عاما للحركة الوطنية التي تحكم وستجدني طوع بنانك، أتحمل منك الاهانات والضربات ولو صفعتني على قفاي سبعين مرة في اليوم والليلة؟
الزعيم: هذا المنصب محجوز دائما لأكثر الخدم طاعة لي، وأشدهم قسوة على خصومي، وأمهرهم في التزوير، وأدناهم أخلاقا، وأضعفهم ضميرا.
الحمار: إنني أستطيع أن أقوم بتنظيم الإعلام، وتعيين حمقى في التلفزيون،وغض الطرف عن كل صور الفساد، وتكديس الشاشة الصغيرة بوجوه متخلفة عقليا وثقافيا ولغويا، والتعاون مع المتزلفين والمنافقين في الصحافة، واشتراط الضعف في اللغة العربية لكل من يتم تعيينه.
الزعيم: معذرة، عزيزي الحمار، فنحن هنا أمام آلة تلميع وتأهيل صورة الزعيم كلما بدت باهتة أو نَسيها الناسُ لساعة أو بعض الساعة، فيقوم إعلامنا بتذكير المواطنين بأن لهم سيّدا يطيعونه. هل تعرف أن في تلفزيون دولة عربية أخرى يقوم المشاهد المتصل باهداء الأغنية أولا في برنامج ما يطلبه المشاهدون إلى صديقي الزعيم، ثم تبدأ الإهداءات الحقيقية للأهل والأحباب والأصدقاء؟
ثم إنني أشترط في هذا المنصب ذكاء وحماقة في نفس الوقت.
الإعلام في بلدنا هو خط الدفاع عن الطغيان، وممارسة البغاء السياسي وحماية القصر من البيان رقم واحد الذي يتمنى الكثيرون إذاعته بُعَيّد وصول دبابتين وثلاث مدرعات إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون.
الحمار:لماذا لا تجعلني كاتب خُطَبك التي تُلقيها في المناسبات الرسمية والوطنية؟
الزعيم: أنا لا أنكر أن أيّ حمار يمكن أن يكتب خطبة ويلقيها الزعيم على الملأ وتتحول صباح اليوم التالي في مانشيتات الصحف الرسمية إلى أقوال كأنها من رحم فلسفة سبينوزا وعبقرية تشرشل والبيان البلاغي للرافعي، لكن كاتب خُطبي يعرف ما يدور في خلدي، ويقرأ أفكاري قبل أن ينطق بها لساني، ويتابع أجهزة الاستقبال العاطفية الساذجة في نفوس وقلوب أبناء شعبي، ويتجنب تماما المرور على العقل والمنطق والتاريخ والحقائق، فتأتي خطبتي كأنها أُمُّ البيانات.
ولكن ما رأيك في أن آمر بتعيينك كاتبا للمسلسلات التلفزيونية وهي بوجه عام مهنة، باستثناء بعض الأعمال النادرة، يجيدها كلُ حمار يرغب في الوصول إلى قلوب الحمقى، بل إن بعض المسلسلات يتأفف كاتبها الحمار من مشاهدتها مع أن لها شعبية كبيرة؟