تعتبر ظاهرة الفساد والفساد الإداري والمالي بصورة خاصة ظاهرة عالمية
شديدة الانتشار ذات جذور عميقة تأخذ إبعاداً واسعة تتداخل فيها عوامل
مختلفة يصعب التمييز بينها، وتختلف درجة شموليتها من مجتمع إلى آخر. إذ
حظيت ظاهرة الفساد في الآونة الأخيرة باهتمام الباحثين في مختلف الاختصاصات
كالاقتصاد والقانون وعلم السياسة والاجتماع، كذلك تم تعريفه وفقاً لبعض
المنظمات العالمية حتى أضحت ظاهرة لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها.
وهنا نسلط الضوء على مفهوم الفساد، مظاهره، أسبابه والآثار والانعكاسات
المؤثرة ثم نعرج على تجربة العراق في الفساد الإداري محاولين تسليط الضوء
على خصائص وإبعاد هذه التجربة والآثار السلبية الناتجة عنها ثم نأتي إلى
وضع ابرز الحلول والمعالجات الموضوعية للحد من تأثير هذه الظاهرة على
المجتمعات البشرية.
أولاً:- تحديد مفهوم الفساد.
يقتضي الاتفاق في معظم البحوث الأكاديمية على تحديد معنى المصطلحات
المستخدمة ومضمونها حتى ينحصر الجدل في إطاره الموضوعي، واستناداً إلى ذلك،
فإنه يمكن تعريف الفساد لغةً واصطلاحاً.
الفساد لغةً:- الفساد في معاجم اللغة هو في (فسد) ضد صَلُحَ (والفساد)
لغة البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطُلَ واضمحل، ويأتي التعبير على معانٍ
عدة بحسب موقعه. فهو (الجدب أو القحط) كما في قوله تعالى (ظهر الفساد في
البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)
(سورة الروم الآية41) أو (الطغيان والتجبر) كما في قوله تعالى (للذين لا
يريدون علواً في الأرض ولا فساداً) (سورة القصص الآية83) أو (عصيان لطاعة
الله) كما في قوله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
الأرض فساداً إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا
من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم عذاب عظيم) (سورة المائدة الآية33)
ونرى في الآية الكريمة السابقة تشديد القرآن الكريم على تحريم الفساد على
نحو كلي، وإن لمرتكبيه الخزي في الحياة الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.
الفساد اصطلاحاً:- ليس هناك تعريف محدد للفساد بالمعنى الذي يستخدم فيه
هذا المصطلح اليوم، لكن هناك اتجاهات مختلفة تتفق في كون الفساد هو إساءة
استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص.
ويحدث الفساد عادة عندما يقوم موظف بقبول أو طلب ابتزاز رشوة لتسهيل عقد
أو إجراء طرح لمناقصة عامة. كما يمكن للفساد إن يحدث عن طريق استغلال
الوظيفة العامة من دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب ضمن منطق
(المحسوبية والمنسوبية) أو سرقة أموال الدولة مباشرةً.
إن ظاهرة الفساد الإداري ظاهرة طبيعية في المجتمعات الرأسمالية حيث
تختلف درجات هذا الفساد إلى اختلاف تطور مؤسسة الدولة. إما في بلدان العالم
الثالث فإن لفساد مؤسسات الدولة وتدني مستويات الرفاه الاجتماعي تصل إلى
أقصى مدياتها، وهذا ناتج عن درجة التخلف وازدياد معدلات البطالة. فالفساد
قد ينتشر في البنى التحتية في الدولة والمجتمع، وفي هذه الحالة يتسع وينتشر
في الجهاز الوظيفي ونمط العلاقات المجتمعية فيبطيء من حركة تطور المجتمع
ويقيد حوافز التقدم الاقتصادي.
إن الآثار المدمرة والنتائج السلبية لتفشي هذه الظاهرة المقيتة تطال كل
مقومات الحياة لعموم أبناء الشعب، فتهدر الأموال والثروات والوقت والطاقات
وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وبالتالي تشكل منظومة
تخريب وإفساد تسبب مزيداً من التأخير في عملية البناء والتقدم ليس على
المستوى الاقتصادي والمالي فقط، بل في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي،
ناهيك عن مؤسسات ودوائر الخدمات العامة ذات العلاقة المباشرة واليومية مع
حياة الناس.
إن الفساد له آلياته وآثاره ومضاعفاته التي تؤثر في نسيج المجتمعات
وسلوكيات الأفراد وطريقة أداء الاقتصاد وتعيد صياغة (نظام القيم) وهناك
آليتين رئيسيتين من آليات الفساد:
1. آلية دفع (الرشوة) و(العمولة) (المباشرة) إلى الموظفين والمسؤولين في
الحكومة، وفي القطاعين العام والخاص لتسهيل عقد الصفقات وتسهيل الأمور
لرجال الأعمال والشركات الأجنبية.
2. وضع اليد على (المال العام) والحصول على مواقع متقدمة للأبناء
والأصهار والأقارب في الجهاز الوظيفي.
وهذا النوع من الفساد يمكن تسميته بـ(الفساد الصغير) وهو مختلف تماماً
عن ما يمكن تسميته بـ(الفساد الكبير) المرتبط بالصفقات الكبرى في عالم
المقاولات وتجارة السلاح، ويحدث مثل هذا الفساد الكبير عادةً على المستويين
السياسي والبيروقراطي مع ملاحظة إن الأول يمكن أن يكون مستقلاً بدرجة أو
بأخرى، عن الثاني أو يمكن أن تكون بينهما درجة عالية من التداخل والتشابك.
إذ عادةً ما يرتبط (الفساد السياسي) بالفساد المالي حين تتحول الوظائف
البيروقراطية العليا إلى أدوات للإثراء الشخصي المتصاعد.
ومع تعدد التعاريف المتناولة لمفهوم الفساد، إلى أنه يمكن القول إن
الإطار العام للفساد ينحصر في سوء استعمال السلطة أو الوظيفة العامة
وتسخيرها لقاء مصالح ومنافع تتعلق بفرد أو بجماعة معينة.
ثانياً:- مظاهر الفساد:
والفساد من حيث مظهره يشمل أنواع عدة منها:-
1. الفساد السياسي:- ويتعلق بمجمل الانحرافات المالية ومخالفات القواعد
والأحكام التي تنظم عمل النسق السياسي (المؤسسات السياسية) في الدولة. ومع
أن هناك فارق جوهري بين المجتمعات التي تنتهج أنظمتها السياسية أساليب
الديمقراطية وتوسيع المشاركة، وبين الدول التي يكون فيها الحكم شمولياً
ودكتاتورياً، لكن العوامل المشتركة لانتشار الفساد في كلا النوعين من
الأنظمة تتمثل في نسق الحكم الفاسد (غير الممثل لعموم الأفراد في المجتمع
وغير الخاضع للمساءلة الفعالة من قبلهم) وتتمثل مظاهر الفساد السياسي في:
الحكم الشمولي الفاسد، وفقدان الديمقراطية، وفقدان المشاركة، وفساد الحكام
وسيطرة نظام حكم الدولة على الاقتصاد وتفشي المحسوبية.
2. الفساد المالي:- ويتمثل بمجمل الانحرافات المالية ومخالفة القواعد
والأحكام المالية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في الدولة ومؤسساتها
ومخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية كالجهاز المركزي للرقابة
المالية المختص بفحص ومراقبة حسابات وأموال الحكومة والهيئات والمؤسسات
العامة والشركات، ويمكن ملاحظة مظاهر الفساد المالي في: الرشاوى والاختلاس
والتهرب الضريبي وتخصيص الأراضي والمحاباة والمحسوبية في التعيينات
الوظيفية.
3. الفساد الإداري:- ويتعلق بمظاهر الفساد والانحرافات الإدارية
والوظيفية أو التنظيمية وتلك المخالفات التي تصدر عن الموظف العام إثناء
تأديته لمهام وظيفته في منظومة التشريعات والقوانين والضوابط ومنظومة القيم
الفردية التي لا ترقى للإصلاح وسد الفراغ لتطوير التشريعات والقوانين التي
تغتنم الفرصة للاستفادة من الثغرات بدل الضغط على صناع القرار والمشرعين
لمراجعتها وتحديثها باستمرار. وهنا تتمثل مظاهر الفساد الإداري في: عدم
احترام أوقات ومواعيد العمل في الحضور والانصراف أو تمضية الوقت في قراءة
الصحف واستقبال الزوار، والامتناع عن أداء العمل أو التراخي والتكاسل وعدم
تحمل المسؤولية وإفشاء أسرار الوظيفة والخروج عن العمل الجماعي.
والواقع إن مظاهر الفساد الإداري متعددة ومتداخلة وغالباً ما يكون
انتشار احدها سبباً مساعداً على انتشار بعض المظاهر الأخرى.
4. الفساد الأخلاقي:- والمتمثل بمجمل الانحرافات الأخلاقية والسلوكية
المتعلقة بسلوك الموظف الشخصي وتصرفاته. كالقيام بإعمال مخلة بالحياء في
أماكن العمل أو أن يجمع بين الوظيفة وأعمال أخرى خارجية دون أذن أدارته، أو
أن يستغل السلطة لتحقيق مآرب شخصية له على حساب المصلحة العامة أو أن يمارس
المحسوبية بشكلها الاجتماعي الذي يسمى (المحاباة الشخصية) دون النظر إلى
اعتبارات الكفاءة والجدارة.
ثالثاً:- أسباب الفساد وانعكاساته:-
للفساد أسباب وانعكاسات عديدة يمكن ملاحظتها سياسياً واقتصادياً
واجتماعياً، على أن هذا لا يعني أن الفساد مقتصر على وجود هذه العوامل
الثلاث ولكن لأغراض البحث العلمي ولأهمية هذه العوامل في بنية وتكوين
المجتمع يمكن رصد هذه الأسباب.
ففيما يتعلق بالجوانب والأسباب السياسية الملازمة لظاهرة الفساد، يمكن
القول أن عوامل مختلفة تقف وراء شيوع هذه الظاهرة تتناغم في شدتها ودرجتها
طردياً مع تنامي ظاهرة الفساد منها عدم وجود نظام سياسي فعّال يستند إلى
مبدأ فصل السلطات وتوزيعها بشكل انسب أي غياب دولة المؤسسات السياسية
والقانونية والدستورية وعند هذا المستوى تظهر حالة غياب الحافز الذاتي
لمحاربة الفساد في ظل غياب دولة المؤسسات وسلطة القانون والتشريعات تحت
وطأة التهديد بالقتل والاختطاف والتهميش والإقصاء الوظيفي. وهناك عامل آخر
يتعلق بمدى ضعف الممارسة الديمقراطية وحرية المشاركة الذي يمكن أن يسهم في
تفشي ظاهرة الفساد الإداري والمالي ذلك أن شيوع حالة الاستبداد السياسي
والدكتاتورية في العديد من البلدان يسهم بشكل مباشر في تنامي هذه الظاهرة
وعندها يفتقد النظام السياسي أو المؤسسة السياسية شرعيتها في السلطة وتصبح
قراراتها متسلطة بعيدة عن الشفافية، فضلاً عن حرية نشاط مؤسسات المجتمع
المدني.
كما يمكن لظاهرة الفساد أن تأخذ مداها وتبلغ مستوياتها في ظل عدم
استقلالية القضاء وهو أمر مرتبط أيضاً بمبدأ الفصل بين السلطات إذ يلاحظ في
معظم البلدان المتقدمة والديمقراطية استقلالية القضاء عن عمل وأداء النظام
السياسي وهو ما يعطي أبعاداً أوسع فعالية للحكومة أو النظام السياسي تتمثل
بالحكم الصالح والرشيد، فاستقلالية القضاء مبدأ ضروري وهام يستمد أهميته من
وجود سلطة قضائية مستقلة نزيهة تمارس عملها بشكل عادل وتمتلك سلطة رادعة
تمارسها على عموم المجتمع دون تمييز. وهنا فأن السلطة الرادعة هذه تعتبر من
أهم مقومات عمل السلطة القضائية لتأخذ دورها في إشاعة العدل والمساواة بين
أفراد المجتمع.
هناك عامل آخر يمكن أن يسهم في تفشي ظاهرة الفساد متمثل بقلة الوعي
(الوعي السياسي) وعدم معرفة الآليات والنظم الإدارية التي تتم من خلالها
ممارسة السلطة. وهو أمر يتعلق بعامل الخبرة والكفاءة لإدارة شؤون الدولة.
يضاف إلى تلك العوامل والأسباب السياسية المتعلقة بظاهرة الفساد عوامل
أخرى اقتصادية منها: غياب الفعالية الاقتصادية في الدولة ذلك أن اغلب
العمليات الاقتصادية هي عبارة عن صفقات تجارية مشبوهة أو ناتجة عن عمليات
سمسرة يحتل الفساد المالي فيها حيزاً واسعاً، وهو ما سينعكس بصورة أو بأخرى
على مستوى وبنية الاقتصاد الوطني، إذ ستؤثر هذه العمليات على مدى سير عملية
تنفيذ المشاريع وبالتالي على عملية الإنتاج. من جهة أخرى، أن مستوى الجهل
والتخلف والبطالة يشكل عامل حاسم في تفشي ظاهرة الفساد ذلك أن قلة الوعي
الحضاري ظلت ملازمة أو ملتزمة بالرشوة. كما أن ضعف الأجور والرواتب تتناسب
طردياً مع ازدياد ظاهرة الفساد.
ومن خلال هذه العوامل والأسباب الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة
لظاهرة الفساد، يمكن رصد بعض الآثار الاقتصادية المتعلقة بتلك الظاهرة
عموماً منها:-
1. يساهم الفساد في تدني كفاءة الاستثمار العام وأضعاف مستوى الجودة في
البنية التحية العامة وذلك بسبب الرشاوى التي تحد من الموارد المخصصة
للاستثمار وتسيء توجيهها أو تزيد من كلفتها.
2. للفساد أثر مباشر في حجم ونوعية موارد الاستثمار الأجنبي، ففي الوقت
الذي تسعى فيه البلدان النامية إلى استقطاب موارد الاستثمار الأجنبي لما
تنطوي عليه هذه الاستثمارات من إمكانات نقل المهارات والتكنلوجيا، فقد
أثبتت الدراسات أن الفساد يضعف هذه التدفقات الاستثمارية وقد يعطلها مما
يمكن أن يسهم في تدني إنتاجية الضرائب وبالتالي تراجع مؤشرات التنمية
البشرية خاصةً فيما يتعلق بمؤشرات التعليم والصحة.
3. يرتبط الفساد بتردي حالة توزيع الدخل والثروة، من خلال استغلال أصحاب
النفوذ لمواقعهم المميزة في المجتمع وفي النظام السياسي، مما يتيح لهم
الاستئثار بالجانب الأكبر من المنافع الاقتصادية التي يقدمها النظام
بالإضافة إلى قدرتهم على مراكمة الأصول بصفة مستمرة مما يؤدي إلى توسيع
الفجوة بين هذه النخبة وبقية أفراد المجتمع.
كما يمكن لظاهرة الفساد أن تنمو وتتزايد بفعل عوامل اجتماعية ضاربة في
بنية وتكوين المجتمعات البشرية ونسق القيم السائدة، إذ تلعب العادات
والتقاليد الاجتماعية وسريانها دوراً في نمو هذه الظاهرة أو اقتلاعها من
جذورها وهذه العادات والتقاليد مرتبطة أيضاً بالعلاقات القبلية السائدة في
المجتمع كما أن التنظيم الإداري والمؤسسي له دور بارز في تقويم ظاهرة
الفساد من خلال العمل على تفعيل النظام الإداري ووضع ضوابط مناسبة لعمل هذا
النظام وتقوية الإطار المؤسسي المرتبط بخلق تعاون وتفاعل ايجابي بين الفرد
والمجتمع والفرد والدولة استناداً إلى علاقة جدلية تربط بينهما على أساس
ايجابي بناء يسهم في تنمية وخدمة المجتمع.
وهناك عامل آخر لا يقل أهمية عن العوامل السابقة يتمثل في غياب الثقة في
تطبيق المثل الإنسانية.
ومن خلال هذه الأسباب والآثار المتعلقة بظاهرة الفساد، يمكن أن نسلط
الضوء على تجربة العراق في الفساد الإداري، ومدى سلوك هذه الظاهرة منذ
نشأتها وحتى الوقت الحاضر وأهم أسبابها وانعكاساتها، وصولاً إلى وضع الخطط
والسبل الكفيلة للحد من هذه الظاهرة الوبائية في المجتمعات عموماً.
رابعاً: الفساد الإداري في العراق:-
يصعب تحليل ظاهرة الفساد في العراق دون ربطها بتاريخ الظاهرة في ظل
أوضاع نظم الحكم المتتابعة على هذه الدولة، وعليه يمكن القول أن الفساد في
العراق ليس وليد اللحظة الآنية، بل متجذر في البنية المجتمعية منذ تشكيل
الدولة العراقية الحديثة التي تأسست على الخلفية الطائفية وهذا يكشف عن
أحدى الأسباب المهمة في تبلور تلك الظاهرة الخطيرة التي تقف عقبة في طريق
تقدم عملية التنمية بأصعدتها المختلفة مبددة الطاقات المالية والبشرية
ومكرسة لحالة التخلف في مجتمعنا العراقي.
لقد شجع النظام الملكي في العراق الإقطاع كنظام اجتماعي كان في طريقه
إلى الاضمحلال ثم الزوال بشكل نهائي نتيجة تطور العلاقات الاجتماعية
كانعكاس للواقع المادي الجديد آنذاك. إذ أدت تلك السياسة إلى نزوح الفئات
الفلاحية هرباً من الاستغلال لينشؤوا مناطق بائسة مادياً في ضواحي العاصمة،
ذلك أن وجود دستور ينص على المساواة بين المواطنين لم يجد له مكان في ارض
الواقع بسبب غياب الديمقراطية المبنية على إشراك جميع المواطنين من جهة
وفصل السلطات من جهة أخرى.
واستمرت حالات الفساد الاداري والمالي مستشرية في جميع مفاصل الدولة حتى
تفاقمت تلك الظاهرة بشكل نوعي أبان الحقبة البعثية الصدامية وكانت لعائدات
النفط المرتفعة تأثيراً مباشراً في فتح منافذ متعددة استطاعت بؤر الفساد في
الدولة النفاذ عبرها من أجل إشباع حاجاتها ورغباتها باستمرار على حساب
معاناة فاقت كل الحدود للشعب العراقي. إن الاستغراق في تفصيل مفردات الفساد
لتلك الحقبة يأتي بنتائج عكسية لأنه يضع في النهاية حدوداً لها في حين أنها
غير متناهية في ذاكرة العراقيين جميعاً، فبعد سقوط النظام السابق انتقلت
مظاهر الفساد المختلفة منها اللامبالاة والأنانية والمحسوبية والمنسوبية
والرشوة عبر الكادر الإداري البعثي السابق إلى كل مفاصل الدولة الجديدة حيث
تكونت فئات لا ترتقي لمستوى الطبقة الاجتماعية خلال هذه الفترة وافرازاتها
متحصنة بأسلحة متنوعة سياسية، مالية وإعلامية لتسيطر على الأراضي
والممتلكات العامة وكأنها أصبحت مشاعية خاصة بهم حتى أصبحت هذه الممارسات
ما يمكن أن يطلق عليها (ثقافة الفرهود) المتجذرة في المجتمعات البدوية التي
أعيد إنتاجها لتتفق والمعطيات المشوهة لهذا الزمان. ومن جهة أخرى تمثلت
حالات الفساد الإداري والمالي في العراق خلال فترة الاحتلال وقبل تشكيل أول
حكومة عراقية بالممارسات والأعمال التي قامت بها قوات الاحتلال وهي قضية
تعيين مستشارين أمريكان بصفة ممثلين لقطاعات مختلفة من التكنوقراط وأصبحوا
يديرون الوزارات والمؤسسات الرسمية واغلبهم أن لم يكن جميعهم من العاطلين
عن العمل في أوربا وأمريكا يفتقدون لمعيار الخبرة والكفاءة التي تعتبر من
أهم مقومات الحكم الصالح والرشيد. وقد استخدم هؤلاء مناصبهم لممارسة أعمال
تجارية كالسمسرة بين مؤسسات الدولة والشركات الأجنبية مما تسبب بهدر جزء
كبير من المال المخصص لإعادة الأعمار.
لقد اتسمت المرحلة التي شهدها العراق إبان فترة الاحتلال بتزايد حالات
الفساد التي عبرت عنها حالات متكررة من الانحراف في القيم الأخلاقية التي
لم يعتد عليها المجتمع العراقي مثل القتل والاغتصاب والخطف والسرقة، ففي
تقرير لمعهد الدراسات السياسية الأمريكية (IPS) ومركز السياسة الخارجية في
بؤرة الاهتمام (FPS) الصادر في حزيران 2004 يشير إلى أن الفساد الاقتصادي
معبراً عنه بالعديد من التجاوزات المالية التي حدثت تحت أوضاع الاحتلال،
فقد أجري تحقيق مع موظفي شركة (هاليبرتون) لاتهامها بتقاضي مبالغ مالية
بلغت نحو (160) مليون دولار لأعمال لم تقم بإنجازها فضلاً عن (60) مليون
دولار قيمة تجاوزات لنفقات محدودة مسبقاً والرشاوى التي تلقاها بعض موظفي
هذه الشركة من مقاولين ثانويين وأخرى غيرها تظهر وسائل الفساد والإفساد في
المجتمع العراقي.
كما امتدت مظاهر الفساد إلى بعض لجان الأمم المتحدة حينما أساءت التصرف
في مضمون اتفاقية النفط مقابل الغذاء والدواء، ففي تقرير أعدته منظمة
الشفافية الدولية قدرت ظاهرة الفساد في العراق بأكبر ظاهرة فساد في التاريخ
المعاصر من الفساد الإداري، إذ تشكلت لجنة خاصة للتحقيق والنظر في هذه
القضية وعليه يمكن القول: إن أتساع دائرة الفساد في العراق قد رافق نشأة
المؤسسات بعد رحيل النظام السابق، إذ لم توافق سلطة الاحتلال على استقلالية
قرارات المؤسسات الحكومية الناشئة لذا تم تكوين مجلس الحكم الانتقالي لتحمل
مسؤولية التحول، وكان من مخرجات ذلك التحول السياسي، إنشاء نظام وظيفي في
إطار السلطة التنفيذية قائم على الولاءات السياسية، ومن ثم الاعتماد على
توزيع الفرص بدلاً من تكافؤ الفرص.
فالمجتمع العراقي الذي خرج من توجيهات النظام الشمولي للحزب الواحد،
واجه نمطاً آخر من الولاءات السياسية أبعدته عن الكفاءة الوظيفية.
إن التحليل الموضوعي لظاهرة الفساد عموماً يقتضي بيان جانبان أساسيان
لتلك الظاهرة:
* الجانب الأول:- وهو الجانب الأخلاقي المرتبط بظاهرة الفساد والذي
يعتبر معيار ومدى التزام المجتمع بالعادات والتقاليد واحترامها، وضمن هذا
الإطار تختفي النظرة إلى العمل بوصفه الحاجة الحيوية الأولى للإنسان بل
وتهتز نظرة الناس إلى الإخلاص والأمانة والنزاهة، فإذا ما أدى كل منا
واجباته على وفق ما تمليه أخلاقيات الوظيفة العامة، فإن مساحة الفساد
ستنحسر إلى حدودها الدنيا. وتظهر مظاهر الفساد جلياً من خلال الممارسات
التي قامت بها قوات الاحتلال في سجن أبو غريب التي تعبر عن دليل بارز على
مظاهر الفساد الأخلاقي في العراق.
* الجانب الثاني:- وهو الجانب المالي الذي يعتبر المحرك والدافع الأساس
لتلك الظاهرة، إذ ينشأ شعور داخلي لدى الأفراد أو الجماعات بفكرة تتجذر في
نفوسهم تستند إلى كون أن من يملك المال يملك السلطة، ومن يملك السلطة يملك
المال، مستغلين بذلك مواقع المسؤولية لتحقيق مزايا ومكاسب تخالف القوانين
والأعراف السائدة في المجتمع.
إن أوضاع الفساد الذي ساد واستشرى خلال فترة الاحتلال قد فتحت أبواباً
واسعة للعنف غير الرسمي والذي أصبح من الصعب التحكم بمساراته ويمكن أن يصبح
وبائياً في المجتمع العراقي، ولاسيما أن حالات الكسب السريع من خلال وسائل
الفساد يؤدي إلى التزاحم لحفظ الفاسدين على مراكزهم الوظيفية وهذا بالتالي
يدفعهم إلى العنف في سلوكهم اليومي.
وعليه يمكن تحديد أهم المتضمنات الرئيسية لظاهرة الفساد في العراق تحت
الاحتلال الأجنبي، حيث تتوافق دوافع الفساد مع وجود سلطة الاحتلال، إذ بعد
سيطرتها على مراكز اتخاذ القرار في العراق في نيسان 2003 أصبحت جميع
الموارد الاقتصادية والنقدية تحت تصرف أدارتها المدنية، فقد ظهر الفساد
جلياً باساءة استعمال سلطة الاحتلال للبنى المؤسسية، وسرقة المحتويات
النقدية للبنوك والمصارف، وتدمير المباني الحكومية كافة. من جهة أخرى يتبين
صورة الفساد في العراق من خلال قيام الجانب المدني من قوى الاحتلال بمهام
الإشراف على الإصلاح ولاسيما على دوائر الدولة والجامعات وشبكة المصارف
والمواصلات مما خلق حالة من الفساد تمثلت من خلال لجان مشتريات مستلزمات
الأعمار ولاسيما في ذلك الجانب المتعامل مع القطاع الخاص.
وإذا ما تفحصنا الجوانب الاقتصادية التي تزامنت وشجعت على تبلور ظاهرة
الفساد في المجتمع العراقي. نجد أن عوامل مختلفة تقف وراء هذه الظاهرة منها
غياب جهاز ضريبي يتناسب والنشاط الاقتصادي العراقي، إذ ترتب على ذلك اتساع
حالة الفساد، فضلاً عن ضعف القدرة الرقابية للجهاز المحاسبي ومن ثم اتساع
أوضاع التهرب الضريبي خلال فترة الاحتلال. لذا فإن الحاجة إلى نظام دقيق
كفوء يتطلب السعي الدوؤب إلى استغلال الموارد المالية والاقتصادية المتاحة
في البلد وتأتي في مقدمة هذه الاهتمامات خلق شعور بالمسؤولية لدى المواطن
بأهمية الانتماء إلى الوطن وبالتالي جعل الولاء الأول للدولة والوطن
والاستفادة من الولاءات الثانوية لتكون بمثابة عوامل بناءة للارتقاء
والتشديد للانتماء للوطن لكي لا تكون عوامل هدامة.
وفي ظل هذه الأوضاع المستشرية من الفساد نتساءل هل يمكن إصلاح أوضاع
الفساد في العراق؟ فإذا كانت ظاهرة الفساد شائعة في العراق سابقاً، فإن أهم
ما في إبعادها الجديدة هو انفلاتها، وامتدادها من الأفراد والمؤسسات الخاصة
والحكومية إلى بنية الدولة ونخبها السياسية وتحولها إلى بديهية سياسية
اجتماعية اقتصادية. واخطر ما في هذه الظاهرة هو محاولة استخدامها من قبل
جهات مختلفة لتعزيز القوة السياسية والاقتصادية في المرحلة الانتقالية
واقتناص فرصة التغيير على النحو الذي تمت فيه لتعظيم منافعها الخاصة
بتكاليف ضخمة على حساب عملية التنمية الاقتصادية- الاجتماعية التي حل محلها
في العراق ما يعرف بـ (عملية أعادة الأعمار).
إن الفساد القائم على نهب جزء من الفائض الاقتصادي أو أعادة توزيعه بطرق
غير مشروعه، وإيجاد التغطية السياسية والإجرائية له ليس هو الجانب الأكثر
ضرراً في أسلوب إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية ولكن ما هو خطير حقاً
يتجسد في كيفية إدارة الحكومات الانتقالية للازمات الحادة والمتعددة التي
يتعرض لها العراق.
لقد ترتب على انتشار ظاهرتي المحسوبية والوساطة في المجتمعات النامية
ومنها العراق أن شغلت الوظائف العامة والمراكز الوظيفية العليا بأشخاص غير
مؤهلين وغير كفوءين مما أثر على انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات
وزيادة الإنتاج. وعليه فإن الفساد المالي والأخلاقي متلازمان في أغلب
الأحيان إلا في حالات نادرة لأن الأصل أن الفساد هو أحد الأعراض التي ترمز
إلى وقوع خلل في النسق الكلي (المجتمع) وبالتالي حدوث خلل في منظومة السلوك
والتصرفات التي تنتج عن تآكل قواعد الأخلاق والقيم لدى الفاسدين.
لذا يمكن وضع بعض الحلول والمعالجات الضرورية للحد من هذه الظاهرة
والاستفادة منها قدر الامكان للخروج بنتائج ايجابية بناءة تسهم في تقدم
المجتمع وبالتالي تسريع عملية التنمية بجوانبها المختلفة.
خطة لمعالجة حالة الفساد منها:-
1. تبسيط وسائل العمل، وتحديد مهل أنجاز المعاملات يعبر أهم عامل في
طريق مكافحة الفساد لأنه يضمن أمرين أساسيين يعول عليهما المواطن الأهمية
الكبرى هما:-
أ. أنجاز معاملاته بأقل نفقة ممكنة.
ب. أنجاز معاملاته بأسرع وبأقرب مكان ممكن وبالتالي بأسرع وقت ممكن.
2. أجراء تنقلات دورية بين الموظفين (كلما أمكن ذلك) يمكن أن يسهل ويعمل
على تخفيض حالات الرشوة السائدة.
3. تشكيل لجان خاصة لوضع نظام متكامل لأداء الموظفين تقوم بإجراء تفتيش
دوري بين الدوائر والوزارات وأعداد التقارير الخاصة بذلك.
4. وضع مصنف يتضمن تقسيم الوظائف العامة على وفق طبيعة مهامها إلى فئات
ورتب تتطلب من شاغليها مؤهلات ومعارف من مستوى واحد (أي اعتماد معيار
الكفاءة والخبرة).
5. تحديد سلسلة رواتب لكل فئة من الفئات الواردة في المصنف بعد أجراء
دراسة مقارنة للوظائف المتشابهة في القطاعين العام والخاص.
6. أنشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الإشراف ومتابعة الممارسات التي
تتم من قبل الوزراء والموظفين العاملين في كل وزارة ومؤسسة.
7. تفعيل إدارة الخدمات بمعنى أن يطال جميع الإدارات والمؤسسات العامة
والبلديات أي أن تعطى إدارات الخدمات ذات العلاقة بالجمهور الأولوية
الأولى. والتفعيل هنا يقتضي أن يتناول أربع قضايا أساسية هي:-
أ. هيكلية هذه الإدارات وبنيتها وتحديد مهامها وصلاحياتها بحيث يُعاد
تكوينها على أسس علمية ومسلمات معروفة أبرزها خلو هذه التنظيمات والهيكليات
من الازدواجيات وتنازع الصلاحيات إيجاباً كان أم سلباً وبالتالي ضياع
المسؤولية وهدر النفقات وسوء تحديد المهام وتقادم شروط التعيين.
ب. العنصر البشري في هذه الإدارات بحيث يُختار الأجدر والأنسب على قاعدة
تكافؤ الفرص والمؤهلات والتنافس والعمل على إيجاد حلول لمعالجة ظاهرة
البطالة.
ج. أساليب العمل، بحيث يعاد النظر في هذه الأساليب لجهة تبسيطها وجعلها
أكثر مرونة وتحديد أصول أنجاز المعاملات.
د. وسائل العمل من أدوات وتجهيزات وآلات ومعدات تعتبر من لزوميات أساليب
العمل.
8.العمل على إيجاد السبل اللازمة للخروج من نفق الفساد والإرهاب دون
الوقوع في حلقة مفرغة ممثلة في البدء بإصلاح الدمار الهائل في المنظومة
القيمية، أنماط التفكير وما يرافقها من أمراض كالانتهازية والسلبية ولغة
التحاور المشوهة مع الذات والآخر.
9. العمل بمبدأ الشفافية في جميع مرافق ومؤسسات الدولة.
10. إشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية- الحضارية بين عموم
المواطنين.
وخلاصة القول: أن مكافحة الفساد الإداري لا يمكن أن تتحقق من خلال حلول
جزئية، بل ينبغي أن تكون شاملة تتناول جميع مرتكزات الإدارة من بنيتها
وهيكليتها إلى العنصر البشري العامل فيها إلى أساليب العمل السائدة فيها.
"المصادر والمراجع"
1. الفساد والحكم الصالح في البلاد العربية، مجموعة
باحثين، ضمن بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة
العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية. ط1 كانون الأول 2004.
2. د. علي وتوت: توصيف ظاهرة الفساد، بحث غير منشور.
3. نادر فرجاني: الحكم الصالح: رفعة العرب، في صلاح
الحكم في البلدان العربية، مجلة المستقبل العربي، العدد (256) حزيران 2000
بيروت ص5.
4. شبكة المعلومات الدولية (الانترنت"
بوابة العراق. نت [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] gate. Net
عبد الحميد الصائح، حديث الفساد الإداري في العراق.
5. ملف خاص عن الفساد، أنصاف ضحايا صدام أم استرضاء
بقاياه
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] gate. Net
6.خطة لمكافحة الفساد في الإدارة، بحث غير منشور، مركز
الدراسات التشريعية في جامعة نيويورك- البني 1998.
ماجستير/ علاقات دولية اقتصادية
تموز 2005
مركز المستقبل للدراسات والبحوث
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]