ثالثاً: حق الحرية
1- الخلق كلهم عبيد لله تعالى وحده:
قال شيخ الإسلام: "إن العبد يراد به
المعبَّد الذي عبَّده الله فذَلَّله ودبَّره وصرفه وبهذا الاعتبار
المخلوقون كلهم عباد الله من الأبرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل
الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته
وكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاءوا،
وما شاءوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}
[آل عمران:83]، فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم
ومقلب قلوبهم ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق
إلا هو، سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل
الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به، بخلاف من كان جاهلاً بذلك أو جاحداً
له مستكبراً على ربه لا يقر ولا يخضع له مع علمه بأن الله ربه وخالقه"
2- المراد بالحرية:
تعني الحرية عادة الملكة الخاصة التي
تميز الكائن الناطق عن غيره، وتمنحه السلطة في التصرف والأفعال عن إرادة
وروية، دون إجبار أو إكراه أو قصر خارجي؛ لأن الإنسان الحر ليس بعبد ولا
أسير مقيد، وإنما يختار أفعاله عن قدرة واستطاعة على العمل أو الامتناع
عنه دون ضغط خارجي، ودون الوقوع تحت تأثير قوى أجنبية والإنسان يولد حراً
ويجب أن يعيش حراً، ولا يعبد إلا الله الواحد القهار الذي فطر الإنسان على
العبودية لله تعالى.
فالحرية: هي حرية الإنسان تجاه أخيه الإنسان من جهة، وبما يصدر عنه باختياره من جهة أخرى
3- تساوي الناس في الحرية الشخصية:
كفل الإسلام حق الحرية الشخصية أو حرية الذات، وأن الناس متساوون في هذه الحرية.
قال الشافعي: "إن أصل الناس الحرية حتى يعلم أنهم غير أحرار"
فالإنسان يولد حراً، وليس لأحد أن يستعبده أو يذله أو يقهره أو يستغله، وإن العبودية الحقة لله تعالى.
4- الوعيد الشديد على من باع حراً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)) فذكر منهم: ((ورجل باع حراً فأكل ثمنه)) الحديث
قال المهلب: "وإنما كان إثمه شديداً
لأن المسلمين أكفاء في الحرية، فمن باع حراً فقد منعه التصرف فيما أباح
الله له، وألزمه الذل الذي أنقذه الله منه"
5- الإسلام والرق:
من المعروف تاريخياً أن نظام الرق لم
يبتدعه الإسلام وإنما هو نظام وجد قبل ظهور الإسلام في أنظمة الدول
القديمة، وجاء الإسلام وهو وضعٌ ثابت سواء في دول الشرق القديمة أم في دول
الغرب القديمة
لقد أقرَّ الإسلام الرق، وجعل له من
الضوابط والأحكام ما يسمو على أي نظام بشري، وجعله وسيلة لإخراج الناس من
ظلمات الكفر إلى نور الإيمان؛ لأن السبب الأساس في الرق في الإسلام هو
الكفر، وفي ذلك أيضا من المقاصد ما لا يبلغه عقل ولا يحيط به تفكير.
6- تضييق الإسلام لأبواب الرق:
حرم الإسلام جميع الأسباب المعروفة التي كانت تؤدي إلى ولم يُبق إلا على سببين:
1- رق الحرب.
2- رق الوراثة.
ورق الحرب: هو الذي يفرض على بعض الأسرى، ويشترط في تلك الحرب شرطان:
1-
أن لا تكون الحرب بين فريقين من المسلمين، لأن المسلم لا يجوز أن يسترق
ابتداء، لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق، إذ الاسترقاق إنما يقع جزاء
للشخص وعقوبة له لأنه استنكف أن يعبد ربه فعاقبه الله تعالى بأن جعله عبد
عبيده.
2- أن لا يكون المسلمون معتدين في هذه الحرب
أما رق الوراثة فقد ضيقه الإسلام في عدة صور، ومنها:
1- تحريم بيع أمهات الأولاد إذا ولدت من سيدها:
قال ابن قدامة في معرض ذكره لأحكام أمهات الأولاد: "ولا
يجوز بيعها ولا التصرف بما ينقل الملك من الهبة والوقف، ولا ما يراد للبيع
وهو الرهن، ولا تورث، لأنها تعتق بموت السيد ويزول الملك عنها"
2- عتق أمهات الأولاد بعد موت سيدها:
قال الخرقي: "وإذا مات فقد صارت حرة وإن لم يملك غيرها".
قال ابن قدامة: "يعني: أن أم الولد تعتق من رأس المال وإن لم يملك سواها، وهذا قول كل من رأى عتقهن، لا نعلم بينهم فيه خلافاً"
7- فتح الإسلام لأبواب العتق:
1- الترغيب في العتق وفضله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل أعتق امرءاً مسلماً استنقذ الله بكل عضو منه عضواً منه من النار).
وفي رواية: ((من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه))
قال النووي: "في هذا الحديث بيان فضل
العتق، وأنه من أفضل الأعمال ومما يحصل به العتق من النار ودخول الجنة،
وفيه استحباب عتق كامل الأعضاء"
2- جعل العتق في بعض الكفارات:
1) كفارة القتل:
قال تعالى: {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ
مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن
قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ
وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَةٌ
مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن
لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ ٱللَّهِ
وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:92].
قال ابن كثير: "هذان واجبان في قتل
الخطأ،ز أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ، ومن
شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة"
2) كفارة الظهار:
قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ
يُظَـٰهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3].
قال ابن جرير: "أي: فعليه تحرير رقبة، يعني: عتق رقبة عبد أو أمة"
3) كفارة اليمين:
قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ
ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا
عَقَّدتُّمُ ٱلأيْمَـٰنَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ
مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89].
قال ابن جرير: "يعني تعالى ذكره بذلك: أو فك عبد من أسر العبودة وذلها".
8- كفالة حقوق الأرقاء:
لقد كفل الإسلام حقوق الأرقاء لأن الرقيق يعتبر إنساناً كاملاً، فمن ذلك:
1- جعلهم إخوة للأسياد وأمر بإعانتهم:
عن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر
الغفاري رضي الله عنه وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألناه عن ذلك فقال: إني
ساببت رجلاً فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله
عليه وسلم: ((أعيرته بأمه؟)) ثم قال: ((إن
إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما
يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم
فأعينوهم)).
قال الحافظ: "فيه إطلاق الأخ على
الرقيق، فإن أريد القرابة فهو على سبيل المجاز لنسبة الكل إلى آدم، أو
المراد أخوة الإسلام، ويكون العبد بطريق التبع أو يختص الحكم بالمؤمن"
وقال الحافظ أيضاً: "وفي الحديث النهي عن سب الرقيق وتعييرهم بمن ولدهم، والحث على الإحسان إليهم والرفق بهم"
2- عدم تكليفهم ما لا يطيقون:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق))
قال النووي: "وأجع العلماء على أنه لا يجوز أن يكلفه من العمل ما لا يطيقه، فإن كان ذلك لزمه إعانته بنفسه أو بغيره"
3- التشديد في ضرب الرقيق:
عن زاذان أبي عمر قال: أتيت ابن عمر
وقد أعتق مملوكاً قال: فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال: ما فيه من
الأجر ما يسوى هذا، إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه))
قال النووي: "في هذا الحديث الرفق بالمماليك وحسن صحبتهم وكف الأذى عنهم"
4- التشديد في قذف المملوك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((من قذف مملوكه بالزنا يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال))
قال ابن بطال: "في هذا الحديث النهي عن قذف العبيد والاستطالة عليهم بغير حق؛ لإخبار النبي عليه السلام أنه من فعل ذلك جلد يوم القيامة"
5- الفضل في تعليم العبيد والإماء وتأديبهم:
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له جارية فعلمها فأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران))
قال المهلب: "فيه أجر التأديب والتعليم، وأجر التزويج لله تعالى، وأن الله تعالى قد ضاعف له أجره بالنكاح والتعليم وجعله كمثل أجر العتق"[58].
6- إعطاء الرقيق أجره مرتين إذا أدى حق الله وحق سيده:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيما رجل كانت له جارية أدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وأيما عبد أدى حق الله وحق مواليه فله أجران))
قال ابن عبد البر: "إن
العبد لما اجتمع عليه أمران واجبان: طاعة سيده في المعروف وطاعة ربه، فقام
بهما جميعاً كان له ضعفا أجر الحر المطيع لربه مثل طاعته؛ لأنه قد أطاع
الله فيما أمره به من طاعة سيده، ونصحه وأطاعه أيضاً فيما افترض عليه"